حقل ألغام

TT

تحولت قضية إزالة الألغام في مناطق الحدود التركية ـ السورية وتأجيرها إلى شركات دولية تستثمرها لسنوات طويلة إلى مواجهة سياسية داخلية تتفاعل وتتشعب يوما بعد آخر، وهي لن تهدأ بهذه السهولة على ما يبدو. رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الذي دخل مباشرة على الخط يحمل المعارضة مسؤولية وضع العصي في الدواليب مذكرا أن المال والاستثمار لا هوية ولا انتماء لهما وأن من يقف في طريقهما يضر بمصلحة البلاد ويعيق مسار انطلاقتها الإقليمية والدولية.

الأزمة باختصار لها علاقة مباشرة بعشرات الآلاف من الألغام التي زرعت على طول الحدود السورية التركية ابتداء من منتصف الستينات ضمن مساحة تزيد على 210 آلاف دونم من الأراضي أو 19 ألف كلم مربع أي ضعف مساحة جزيرة قبرص كما يقال بهدف حصر عمليات التهريب وعبور الحدود غير المشروع بين الجانبين ومنع عمليات تسلل كوادر حزب العمال الكردستاني من قواعدهم في الأراضي السورية وقتها. وأنه بعد تحسن العلاقات التركية ـ السورية ابتداء من نهاية العام ألفين وإطلاق سياسة الانفتاح والتقارب وبعدما وقعت تركيا اتفاقيات أوتاوا الدولية وتعهدت بإزالة ألغامها في جميع حدودها مع جيرانها، تجد نفسها ملزمة اليوم بتسريع هذه العمليات وإنجازها قبل نهاية العام 2014.

ورغم أن أردوغان يردد أن ليس اسحق هو الذي سيعمل ويستفيد من هذه الأراضي بل أحمد وحسن وأكثر من 15 ألف مواطن تركي سيحصلون مباشرة على فرص عمل جديدة، فإن المعارضة المدعومة هذه المرة بمواقف وتقارير قيادة الجيش تصر على متابعة هذا الملف حتى النهاية وعرقلته بكل الوسائل القانونية والسياسية التي تملكها مذكرة أنها فعلت ذلك قبل 3 سنوات بإفشالها محاولة مماثلة لحكومة العدالة عندما لجأت إلى مجلس القضاء الإداري وحصلت منه على قرار يلغي العقود الاستثمارية والاتفاقيات التي تم إنجازها مع أكثر من شركة قيل وقتها إن إسرائيل هي التي تمولها وتدعمها.

حزب الحركة القومية اليميني المتشدد يتساءل مثلا عن أسباب لجوء الحكومة إلى اعتماد هذا الأسلوب المتعنت في التعامل مع هذه القضية وإحالتها إلى وزارة المالية بدل الإصغاء إلى ما تقوله لجنة الدفاع النيابية والمؤسسة العسكرية صاحبة الرأي الأساسي في مسألة بحت أمنية وعسكرية «كيف لا يستطيع من زرع هذه الألغام قبل سنوات أن يزيلها من أماكنها خصوصا أن قيادة الجيش اقترحت تكليف شركة «نمسا» المتخصصة في هذا المجال والتابعة لمنظمة حلف الأطلسي بتنفيذ هذه المهمة مقابل بدل مادي يتفق عليه؟». قيادات حزب الشعب الجمهوري من ناحيتها تذكر أردوغان بوقفة «ون ميونيت» في دافوس وهو كان على حق يومها في اعتماد موقف متشدد حيال إسرائيل وعدوانها على غزة لكنها تتساءل لماذا يتساهل البعض في تسليم هذه الأراضي إلى شركات إسرائيلية في مثل هذه الظروف الإقليمية الصعبة التي تمر بها العلاقات التركية – الإسرائيلية عموما ومنطقة الشرق الأوسط خصوصا: «لا أحد يريد أن تبقى الألغام في أماكنها، لكن طروحات الحكومة وتصلبها في هذه المواقف هو ما يقلقنا تحديدا. لماذا ترفض الحكومة تلزيم المشروع إلى شركة دولية مقابل أجر معين وتحتفظ هي بحق استغلال هذه الأراضي واستثمارها مباشرة؟ لماذا لا توزع مثلا هذه الأراضي بعد تنظيفها من الألغام على سكان تلك القرى لمحاربة هيمنة بعض الأسر الإقطاعية على الموارد والخيرات والذين ينتظرون مثل هذه الفرصة لتحسين مستوى معيشتهم وإزالة حالة الغبن الاقتصادي والاجتماعي المستفحلة هناك؟».

44 عاما من استثمار هذه الأراضي الخصبة هو برأينا أكثر وأكبر من أن يكون مجرد مشروع زراعي تجاري بحت. هناك تعهدات لا بد من تقديمها مائيا وأمنيا وجغرافيا في تلك المناطق إلى الجهات التي ستفوز بالعقد ولنفترض فقط أن إسرائيل هي التي وصلت إلى مرادها لنكتشف على الفور أنها ستقترب من منابع مياه نهري دجلة والفرات كما حملتها مشاريع تعاون مشابهة إلى مصادر مياه النيل ولا ضرورة هنا للتذكير بمشروع وحلم «حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل» الذي ستكون الدولة العبرية حققته بأسلوب معولم مخترقة الحدود لإنجازه موفرين لها نحن المساحة الزراعية التي تبحث عنها والتي تفتقدها يوما بعد آخر في الأراضي المحتلة بسبب سياسات التوطين والتهويد والترانسفير وبناء المستعمرات، معززة بذلك من موقعها ودورها التنافسي الإقليمي على حساب أرضنا ومياهنا.

* كاتب وأكاديمي تركي