الممكن من وعود أوباما

TT

يجتمع الرئيس محمود عباس بالرئيس الأمريكي باراك أوباما .الجديد المنتظر من هذا اللقاء ليس في جعبة الرئيس الفلسطيني، فكل ما لدى مهندس أوسلو، قاله لأوباما ولمن سبقوه من سلسلة الرؤساء الأمريكيين، الذين لم يقصّر أي منهم في منح الوعود للفلسطينيين.

ولقد اتحدت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، على معادلة عمل تتصل بالشأن الفلسطيني، وهي الوعود المتحمسة في مطلع عهد أي رئيس، ثم الاعتذار اللامبالي في نهاية العهد.

وللتذكير ليس إلاّ، ولكي لا نغوص عميقا في بحر الزمن، فلنأخذ مثلا بوش الابن، الذي سبق كل الرؤساء الأمريكيين في حماسه لحل المسألة الشرق أوسطية، فهو صاحب مؤتمرَي شرم الشيخ والعقبة في أول عهده، ثم مؤتمر أنابوليس في نهاية العهد )تقريبا)، وبين شرم الشيخ وأنابوليس والاعتذار، حيث المدى الزمني لذلك هو ثماني سنوات بالتمام والكمال، استعان بوش الابن بالله سبحانه وتعالى، وأعلن أنه أمره بحل قضية الشرق الأوسط، بما في ذلك مساعدة الفلسطينيين في الحصول على دولة حقيقية.

هذا التراث من الوعود، واليقين المتسرع بالنجاح والاعتذار الأخير، لا بد وأن يكون بين يدَي الرئيس أوباما، الذي جاء إلى البيت الأبيض، وأمامه خلاصة حرب عالمية مالية، وحرب عالمية أخرى على الإرهاب، وحرب عالمية ثالثة أشد خطرا من الأولى والثانية، وهي تراجُع الصورة الأمريكية إلى أدنى المستويات السياسية والأخلاقية، مع تراجع ملحوظ في النفوذ الأمريكي، حيث كان ينبغي أن يحدث العكس بعد استقالة الاتحاد السوفياتي من منصبه كدولة عظمى، أو كقطب كوني، قاد بالصراع والوفاق والتواطؤ مع الولايات المتحدة حقبة الحرب الباردة، والصراع على كل شيء فوق الكرة الأرضية، وحتى الفضاء.

الحروب العالمية الثلاث، التي وجدت الولايات المتحدة نفسها غارقة فيها، ووجد أوباما نفسه في موقع من تصدى لكسبها، هي ليست حروبا منفصلة، بل هي شديدة الترابط، وإذا كان هنالك من مستشارين لأوباما، يشجعونه على البحث عن حلول لكل واحدةٍ على حدة، فهذه هي أضمن وصفة للفشل، وسقوط الرهانات.

إن جذر المصالح الأمريكية، ونسغ الحياة الذي يمد شجرة أمريكا التي هي بحجم الكون، هو النفوذ الفعلي، وإدارة سياسة توازن المصالح، بعد أن ذهبت حكاية توازن القوى إلى ما وراء التاريخ.

ودعونا نرَ، وبكل الموضوعية، مؤشر النفوذ الأمريكي، وكيف واصل الهبوط منذ الأيام الأولى لاستقالة الاتحاد السوفياتي وحتى يومنا هذا.

ولنضع الضوء الكاشف على منطقتنا التي أضحت خلال السنوات العشرين الماضية مسرحَ حروب تبدأ ولا تنتهي.

حرب الخليج الأولى والثانية، وخلاصتهما غرق في وحل، وعجز عن الخروج، أما حروب إسرائيل، التي أيدتها أمريكا ـ أو لم تعارضها في أفضل الحالات ـ فقد أودت بعملية السلام وأعادت المنطقة إلى حالة من الفوضى وغموض المستقبل، حتى إن الملك عبد الله الثاني ـ ملك الأردن ـ حذّر من احتمالات حرب جديدة، بعد أن داعبنا ولفترة لا بأس بها بشيء يشبه اليقين، بأن زمن الحروب ولّى إلى غير رجعة، منذ وضع السادات وبيغن أول سطر في عملية السلام.

وحين يتراجع النفوذ الأمريكي إلى حد عدم القدرة على الخروج من المأزق، ناهيك عن استحالة الحسم، فلذلك تداعيات اقتصادية ونفسية واستراتيجية، تتجلى الآن في التخبط الأمريكي في أمر التعامل مع إيران، والتخبط الأشد خطورة في تعامل أمريكا مع حلفائها، وعدم وضوح خطوات إنهاء هذا التخبط واستبدال سياسة قابلة للتطبيق به، وليس مجرد توجهات ومواقف.

 الجنرال زيني، الذي أوفده بوش في مهمة عمل إلى فلسطين وإسرائيل، قال كلمة في منتهى الخطورة: «إن حرب الخليج الثانية جاءت تلبية لرغبات ومصالح إسرائيل». ولأن الذي قال ذلك، واحدٌ من قلب المؤسسة الأمريكية الرسمية ـ حتى لو كان متقاعدا ـ فيجدر بالرئيس الأمريكي أوباما، وهو بصدد وضع سياسة شرق أوسطية جديدة، أن يدقّق في هذا القول، ذلك أن العرب والمسلمين، يحددون رؤيتهم وموقفهم من أمريكا وإداراتها، على إيقاع السياسة الأمريكية حيال القضية الفلسطينية أولا، وتحديدا حيال سياسات الإدارات المتعاقبة تجاه إسرائيل.

العرب والمسلمون لا يطلبون المستحيل، بمعنى فصم عُرى العلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فهذه مسألة تتنافى مع أبسط قواعد الواقعية السياسية، غير أنهم يريدون قدرا أعلى من التوازن بين المصالح الأمريكية في العالمين العربي والإسلامي من جهة، والمصالح الأمريكية مع إسرائيل من جهة أخرى.

والتوازن المطلوب، ليس في المواقف والتوجهات المعلنة، وإنما في تنفيذ التوازن على الأرض، ولذلك سيناريو حتمي يتطلب أولا التخلي عن بعض المسلَّمات الأمريكية في التعامل مع إسرائيل، وأولاها استبعاد الضغط المباشر لمصلحة الإقناع الأبوي؛ هذه الطريقة جعلت إسرائيل صاحبة الكلمة العليا في السياسة الأمريكية الشرق أوسطية، وأفرزت نتيجة واحدة، وهي الفشل الإسرائيلي والأمريكي في ذات الوقت.

وثانية المسلَّمات التي تحتاج إلى تغيير من صاحب شعار التغيير، العناية بالأصدقاء الأقربين، ولا أريد استخدام كلمة الحلفاء «من هؤلاء الأصدقاء؟»، إنهم ببساطة وصدق جميع العرب وجميع المسلمين، الذين إن اتحدوا على كراهية أمريكا فبوسعهم الاتحاد على محبتها إذا ما أقدمت على سياسة متوازنة. إن أكثر المسلمين تطرفا في معاداة أمريكا هو الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، ورغم ذلك دعونا ندقّق في أدبيات نجاد تجاه أمريكا، إن الرجل يطلب احتراما متبادلا، ولا يأتي على ذكر آيات من القرآن الكريم تحرّم العلاقة مع أمريكا، ومع أن نجاد لا يصلح كناطق باسم العرب والمسلمين في أمر العلاقة مع أمريكا، فإن فهم مواقفه ودوافعه ومطالبه، يسهل على أمريكا فهم المواقف السعودية والمصرية والأردنية.

وثالثة المسلمات، أن يتخلى أوباما عن نظرته إلى الأمور كما لو أنها «اليوم لصيغة نهائية»، أي إذا كان العرب اليوم غير فاعلين بما فيه الكفاية في السياسة الدولية، بمعنى المبادرات البناءة، فهم فاعلون حتما في إغلاق المساحات على أمريكا، وفاعلون في إنتاج ظواهر مدمرة، ما دامت أمريكا تسير في سياساتها السلبية في المنطقة. إن أحدا لا يجادل في مسؤولية الولايات المتحدة وإسرائيل عن تنامي التطرف في المنطقة، ولا أحد يجادل في أن نمو نفوذ الحركات الإسلامية في فلسطين ولبنان، وتحت الرماد في العديد من الأقطار، سببه إسرائيل في المقام الأول. في غزة انسحب شارون بطريقة خطرة، ولم يسجل انسحابه في سجل عملية السلام كي لا تستفيد السلطة من تحرير غزة بواسطة المفاوضات، وفي لبنان هرب باراك من أجل أن يمنح حزب الله حق القول، وبطريقة لا نقاش فيها، إنه طرد إسرائيل، وإنها ولّت هاربة تحت جحيم المقاومة، ومنذ ذلك اليوم وحتى الآن، وإسرائيل تتخبط، فلا هي ناجحة في المفاوضات، ولا هي كذلك في الحرب.

إن على السيد أوباما أن يدرك، أن كل تأخير في إنجاز عملية سلام متوازنة، هو منح شخص مثل ليبرمان كلمة عليا في تقرير السياسة الأمريكية الشرق أوسطية، ولربما فتح أمامه فرصة إظهار نتنياهو كرجلٍ غير مناسب، واحتل مكانة في الانتخابات القادمة كرئيس للوزراء.

على أي أحد أن لا يرى في هذا القول أي قدر من المبالغة، ولننظر إلى مؤشر نفوذ القوى السياسية والأيديولوجية في إسرائيل منذ اليوم الأول لبدء المشروع السياسي المسمى بمشروع أوسلو، وحتى اليوم، لنرى أن فرص من هو أكثر سوءا من ليبرمان ستكون مضمونة إذا ما استمر الحال على هذا المنوال. 

أخيرا، إن امتحان أوباما في الشرق الأوسط ستظهر نتائجه خلال أسابيع، ولا أقول أشهر، وإذا ما كانت النتيجة فشلا، فعندئذ لا بد من القول.. حتى أنت يا أوباما!

* سفير فلسطين لدى مصر