عن حفر الخنادق في الفضاء!

TT

تتسابق محطات تلفزيونية لبنانية وعربية على بث لقاءات و«حوارات» ومناظرات مباشرة وغير مباشرة مع المرشحين للانتخابات، ومع المتنافسين بين اللوائح وعلى المقاعد في البرلمان اللبناني.

كان يمكن لهذا الطوفان من الحكي الحماسي والمحموم غالبا أن يغني المفهوم المشّوه للتمثيل العام في لبنان، وأن يستخرج من بعض العقول ـ على الأقل ـ أفكارا ترسم خطا جديدا للعمل على انتشال هذا البلد التعس من الخلافات والانقسامات، والسعي إلى تظهير خصائصه الفريدة والمميزة كبلد للتعايش بين مختلف الطوائف والمذاهب، ويمكن أن يشكل مختبرا نموذجيا للتآلف والتعايش يهم العالم، كل هذا العالم، الذي تدفع به الصهيونية نحو صدام بين الحضارات، انطلاقا من الهوة التي اصطنعتها بين الغرب عموما، والعرب والإسلام.

ولكن بعد أقل من شهرين من هذه الحمّى الانتخابية المتصاعدة، يرى اللبنانيون أنهم ـ عبر مجموعة غير قليلة من المبارزات الكلامية ـ قد ملأوا سماء لبنان والمنطقة، وحتى العالم، بالغسيل «الناصع» جدا، الذي يتنافى مع روح لبنان ومعناه، ويوسّع مساحة اليأس والقنوط عند الذين يرون أن البلد آخذ في التمزق على يد عدد من أبنائه، الذين يريدون ربطه بالقاطرات الإقليمية أو الدولية، أو الذين لا يمانعون في إشعال النار في المنزل للصعود إلى أعلى مساحة عند السطح السياسي للبلد.

ليس الأمر مجرد غسيل قذر يبعث على الازدراء والتصبب عرقا وحياءً أمام الشاشات الملتهبة. إنه أكثر من ذلك بكثير. إنه حفر للخنادق في الفضاء، وترميم للمتاريس في السماء، وكأن بعض اللبنانيين قد نسوا فعلا من أي حروب عبثية ودموية ومعيبة خرجوا، بعدما عمل الكثيرون منهم مرتزقة عند الآخرين.

يشكل الأمر في معظم جوانبه احتقارا للناس.. أولئك الذين يطلب إليهم أن يذهبوا في 7 يونيو (حزيران) لإعطاء وكالة تمثيلهم إلى عدد غير قليل من المشعوذين والاستعراضيين والرعاة الذين دخلوا مع ماشيتهم إلى الهيكل.

لبنان في بلد بلا كهرباء. والسياسيون الذين تولوا قطاع الكهرباء والطاقة وأكلوه حتى العظم، وقد وصلت خسائر هذا القطاع إلى أكثر من 15 مليار دولار، وهو ما يساوي ثلث الدين العام. هؤلاء الذين جلسوا تباعا في مقصوراتهم الوزارية يتهمون الحكومات بأنها أوصلت الدين العام إلى 50 مليارا.

ولبنان في بلد بلا ماء، ودول كثيرة في المنطقة تتحضّر للحروب التي ستنشب بسبب شحّ المياه. اللبنانيون جعلوا من سد القرعون مثلا بحيرة آسنة، ومن سهل البقاع الذي كان اهراءات روما في الماضي، صحراء ترويها المجارير.

ولبنان وصلت نفاياته الطافية فوق المتوسط إلى شواطئ أوروبا. هذا لبنان الذي سبق له أن صدّر الحرف والمعرفة والأرجوان. واليوم يصدّر الزبالة والفحم أيضا، ولم يعد هناك تقريبا غير جذوع الأرز للمشاحر، ثم لجمر النراجيل بالطبع!.

لبنان أيضا يصّدر الأبناء إلى المهاجر. يجوع اللبنانيون ويعرقون ويبيعون ما يرثون من الأساور والأرض ليعلّموا أولادهم، ثم يصدّرونهم هدية ليبنوا بلاد الآخرين.

لبنان بلد يعجز فيه الحد الأدنى للأجر عن شراء علبة دواء. وفي لبنان يفاخر البعض بأن جزءا كبيرا من موازنة الدولة المعطلة لأسباب لا تخفى على أحد، إنما يأتي من قطاع الهاتف، أي من حكي الناس. وليس حكي الناس إلا سيلا من الشتائم للذين أوصلوا الوطن إلى درك أدنى من المزرعة.

الأنكى من كل هذا أن لبنان بلد خضع لإدارة خارجية عصرية مثل ليمونة، وضعت الحجر الأساس لسياسة التعطيل والتفشيل والتشويه التي تعرضت لها الحكومات منذ اتفاق الطائف، ثم ارتفع التعطيل (مدماكا بعد مدماك) منذ عام 2005 بالاعتصامات، وشلّ الحكومات، وإحراق الإطارات، وقطع الطرقات يوم كان مؤتمر «باريس - 3» يدعم هذا البلد بأكثر من سبعة مليارات دولار.

ثم يأتي متعهدو التعطيل والشركاء المضاربون في أكل جبنة الدولة في كل عهد ومع كل حكومة ليرفعوا الصوت احتجاجا على تفاقم المديونية التي ترتفع فوقها بصمات أياديهم!.

هذا هو لبنان الذاهب إلى الانتخابات، وهذا هو الخطاب الذي يقال للناس، وتلك هي غفّارات الطهارة ومباخر العفة وتسعاويات الإصلاح التي تُرشق بها أبصار اللبنانيين وعقولهم، وهم يستحقون ـ بلا ريب ـ قليلا من الاحترام.

ولكن من أين يأتي الاحترام للمواطنية في غياب الحياء عند الذين يحملون إما العصا، وإما لسانهم، والغضب الساطع مثل عصا؟!.