قريبا: ثورة إنجليزية

TT

هل إنجلترا على مشارف ثورة؟

بالنسبة إلى هؤلاء الذين يعرفون هذا البلد المسالم جدا، فإن السؤال المطروح يبدو غريبا، حيث لم يشهد الإنجليز المتباهين بالتزامهم بحكم القانون والحكم الديمقراطي ثورات منذ القرن السابع عشر. ورغم ذلك، فإنه من الصعب أن تكون هذه الأيام بصحبة أحد الإنجليز، دون سماع كلام حول الحاجة الماسة والعاجلة لقيام ثورة.

قال ديفيد ستاركي، أحد أبرز المؤرخين في بريطانيا خلال حوار مع بي بي سي «أستشعر أجواء ثورية»، «ولن أندهش إذا انتهى الأمر باندلاع ثورة». وستاركي ليس الوحيد الذي يقول هذا التحليل، فحتى غوردون براون والذي يعتقد أنه رئيس الوزراء الأقل شعبية في بريطانيا على الإطلاق، يعترف بالحاجة إلى «تغيير ثوري»، «لإصلاح الطريقة التي نحكم بها».

ووفقا لبلخانوف، أحد مهندسي الثورة الروسية، فإن الثورات تندلع عادة عندما يمر المجتمع بفترة من الانتعاش المطرد تليها صدمة أزمة اقتصادية شديدة.

حسنا.. نظريا على الأقل، فإن هذا هو الحال في بريطانيا.

بدأت حالة الرخاء في التسعينات ووصلت إلى نهاية مفاجئة بالأزمة المالية والانهيار الاقتصادي الذي تلاها في 2008. وفي تلك الفترة، فإن إجمالي الناتج المحلي، وهو المعيار الأساسي لأداء الاقتصاد، تضاعف تقريبا وهو ما سمح للمواطن العادي بأن يستمتع بمستويات من الرفاهية لم يتمتع بها من قبل.

ولكن، خلال الثمانية عشر شهرا الماضية كانت حالة الاقتصاد البريطاني تسير في الاتجاه المعاكس حيث تقلص إجمالي الناتج المحلي بنسبة 2.7% في المتوسط. وفي الوقت نفسه، فإن بريطانيا انتقلت من حالة انعدام البطالة إلى معدلات بطالة تصل إلى حوالي 10% أو 11% وهي معدلات لم نسمع عنها منذ السبعينات.

ومع ذلك، ومثل كل الماركسيين، فإن بلخانوف كان مخطئا في افتراض هيمنة العوامل الاقتصادية، فالثورات لا تندلع بسبب الأزمات الاقتصادية أو حتى بسبب انتشار الفقر بل تقوم عندما يعاني نظام من فقدان كبير لشرعيته السياسية.

وهذا هو بالتحديد ما حدث للنخبة السياسية البريطانية، ففقدان الشرعية بدأ بفقدان المصداقية، فالمواطن العادي لا يستطيع أن يفهم لماذا لم يعرف حكامه ماذا يحدث للاقتصاد العالمي؟ وإذا كانوا يعرفون فلماذا لم يخبروه؟

ولم تساعد كذلك الحروب في العراق وأفغانستان، فالكثير من البريطانيين يشعرون بأنهم لم يكن يجب أن يظلوا متورطين في حربين في أماكن بعيدة، طوال تلك المدة، ويعتقد البعض أن أداء الجيش البريطاني في المراحل الأخيرة في حرب العراق تميز بعدم الكفاءة والجبن.

ولكن، فإن ما قد يكون بمثابة رصاصة رحمة في الثقة بالنخبة كان في سبق صحافي نشرته صحيفة ديلي تلغراف قبل شهرين والذي يدور حول معلومات رسمية حول نفقات حصل عليها أعضاء مجلس العموم طوال سنوات. ونجحت الصحيفة بمقتضى قانون حرية المعلومات في الحصول على مستندات كان من الممكن أن تظل سرية قبل عقد مضى.

يشار إلى أنه وفقا للقوانين القديمة فإنه يمكن لأعضاء مجلس العموم - الغرفة البرلمانية الدنيا - الحصول على تعويضات مالية عن النفقات التي اضطروا إلى دفعها أثناء تأديتهم لمهامهم.

ولكن المشكلة هي أنه بدا أن العشرات من البرلمانيين طلبوا تعويضات مالية لنفقات لم يكن لها علاقة بأدائهم لمهامهم، فأحد أعضاء البرلمان تلقى أموالا لكي ينظف أحواض المياه المحيطة بقلعته، واستخدم آخر الأموال العامة لكي يبني جزيرة للبط في بحيرة داخل عقار له. وبعض الأعضاء ادعوا أن زوجاتهم أو عشيقاتهم أو أولادهم هم مساعدوهم الخاصون ووضعوهم على قوائم صرف الرواتب. وبعضهم بمن فيهم وزير، سحب أموالا شهرية لتسديد رهون عقارية غير موجودة. وعين وزير المالية رجلا يتلقى راتبا من الأموال العامة لكي يقدم له استشارات تفيده في دفع ضرائب أقل.

ولكن الأسوأ جاء في شكل استخدام المال العام لشراء ممتلكات في لندن ومن ثم بيعها بربح من دون دفع الضرائب المطلوبة.

ومما زاد الأمر سوءا، أن رئيس مجلس العموم مايكل مارتن حاول أن يوقف التسريبات، حيث طلب من الشرطة التحقيق مع هؤلاء الذين قاموا بتسريب الوثائق، وكانت حالة الغضب كبيرة لدرجة أن مارتن كان يجب عليه الاستقالة ليكون أول رئيس للمجلس يتم الإطاحة به من عام 1690.

وجاءت استقالته بعد يومين من وقف عضوين من أعضاء الغرفة التشريعية العليا (مجلس اللوردات) بعد توجيه تهم إليهم بمحاولة تعديل القوانين لصالح بعض أعضاء جماعات الضغط مقابل المال، وتلك الواقعة أيضا لم يحدث مثلها منذ ما يقارب 300 عام. ولكن أكثر ما صدم البريطانيين هو مدى انتشار الفساد واستمراره، حيث يبدو أن حوالي ثلثي الـ 650 عضوا من أعضاء المجلس كانوا متورطين بطريقة أو أخرى.

وبدلا من نشر تفاصيل السبق الصحافي كاملة في مرة واحدة فإن الصحيفة قررت أن تنشره على حلقات مسلسلة يوميا، وهو ما كان له أثر «تعذيب الصينيين» حيث يحبس الناس أنفاسهم انتظارا لمعرفة من الذي سيظهر اسمه في قائمة الأشرار وسيذهب للمقصلة.

وبالرغم من أن المبلغ الإجمالي المتعلق بتلك الفضائح ليس كبيرا، حيث يشير أحد الحسابات إلى أن إجمالي المبلغ الذي سحبه أعضاء البرلمان بطريقة غير شرعية خلال السنوات الأربع الماضية يبلغ حوالي 30 مليون دولار، وهو مبلغ يمكن أن يتلقاه «الوسطاء» في ليلة واحدة فيما يطلق عليه «الدول النامية». فعشيقة ديكتاتور أفريقي حصلت على 300 مليون دولار في خمس سنوات قبل أن يستبدلها بأخرى. ومع ذلك، حقيقة فإن هذا العدد الكبير من السياسيين البريطانيين، ربما أغلبية في البرلمان كانوا مستعدين للتربح من ممارسات مثل التي تتم في دول العالم الثالث، هو ما سبب صدمة قوية للعديد من البريطانيين. لكل دولة أسطورتها الخاصة بها وأسطورة بريطانيا الأساسية أنها كانت مهد الديمقراطية الحديثة؛ وأن القانون له السلطة الأعلى فيها. فالملاحظة الصادمة بأن «أم البرلمانات» ربما كانت تتصرف كمومسات الشوارع الوقحات أمر ليس مريحا بالمرة، فبعض هؤلاء السياسيين الذين يجوبون العالم لإلقاء المحاضرات ـ خاصة في دول العالم الثالث ـ ضد الفساد انكشف تورطهم في سرقات تافهة.

وحتى الآن تم توقيف ما يقارب اثني عشر برلمانيا أو أعلنوا اعتزالهم انتخابات المجلس المقبلة.

وعلى أي حال، فإن معظم المراقبين يعتقدون أن أكثر من نصف أعضاء البرلمان الحاليين لن يتم إعادة ترشيحهم على الأرجح من قبل أحزابهم في الانتخابات المقبلة.

ربما لا تندلع ثورة تقليدية في انجلترا بنصب المتاريس وتعليق المشانق في الأماكن العامة، ولكنه من المؤكد أن الفترة المقبلة ستحدث تغييرات جذرية للنخبة السياسية بوضع رئيس وزراء جديد وحكومة جديدة ومجلس عموم، حيث سيكون أغلبية الأعضاء لأول مرة منذ عام 1945 من المستجدين.

وبالنسبة لانجلترا المحافظة، فستكون تلك الثورة كافية.