يوم الاستهداف ويوم القوة العارية

TT

لا يختلف خطاب الأمين العام لحزب الله في الذكرى التاسعة للتحرير، عن خطاب «اليوم المجيد»، عندما اعتبر أن الدخول إلى بيروت بالسلاح في 7 أيار عام 2008 كان يوما مجيدا. وفي نبرته العالية آنذاك كان يضع نفسه في موقع الدفاع، ويقول إنه إنما اضطر لفعل ذلك لمنع حدوث ما هو أعظم! كأنما هناك ما هو أخطر من احتلال عاصمة البلاد. وقد كرر الأمور نفسها في خطاب 25 أيار، لكنه انتقل هذه المرة من الدفاع إلى الهجوم.

وضع الأمين العام للحزب نفسه منذ البداية في موضع وموقع الحاكم والحكم. فوزع ألقاب وفضائل الوطنية والثقة على طوائف وشخصيات لبنانية، ووزع ألقاب ورذائل الخيانة والعمالة لإسرائيل على طوائف وشخصيات أخرى. فمن جهة شهد للجنرال عون وللنائب وليد جنبلاط بالوطنية والوعي والحكمة، ومن جهة أخرى قال لأهل بيروت إنهم أناس طيبون، لكن قادتهم وزعماءهم ورطوهم وقادوهم إلى ما لا تحمد عقباه. وهؤلاء ـ مع غيرهم من أهل السنة ـ (وعلى خلفية مقالة المجلة الألمانية)، هم بين أحد خيارين: إما أن يصروا على معرفة قتلة الرئيس رفيق الحريري، فينضموا إلى الركب الإسرائيلي، أو يكونوا حكماء فيتجاهلوا الأمر كلـه ـ شأن ما فعله النائب وليد جنبلاط ـ فيظلوا محتملي الوجود والاستمرار، في ظل السلطة والسلطان، اللذين تعودوا عليهما منه بعد حرب تموز عام 2006.

إن هذا الموقف الواضح من المشهد في لبنان عشية الانتخابات، لا يوحي بالثقة في النتائج، كما تؤكده وسائل إعلام الحزب والجنرال عون، ويؤكده نواب الحزب ومرشحوه في خطاباتهم النارية صباح مساء.

لكن بغض النظر عن الانتخابات ونتائجها؛ فإن الواضح أن الأمين العام لحزب الله، والذي دعا جمهوره للانتخاب بكثافة؛ ما كانت نتائج الانتخابات هاجسه الأساسي؛ بل الاتهام الذي وجهته للحزب الأخبار التي أوردها كاتب مقال مجلة «درشبيغل». ولهذه المسألة تاريخ طويل ومديد، بطول السنوات الأربع الهائلة التي انقضت على اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ولكي يكون الأمر دقيقا؛ فإن معارضة الحزب لفكرة المحكمة الخاصة بلبنان، ما بدأت إلا بعد عام على استشهاد الرئيس الحريري. إذ في جلسة الحوار الأولى وافق الحزب على التحقيق الدولي. ثم حصل الانقسام بعد حرب تموز، وتوالت الاغتيالات والتفجيرات، وحصل الاعتصام، واستقال وزراء الحزب والحركة من الحكومة، وأقفل مجلس النواب؛ وكان كل ذلك في نظر المراقبين من أجل منع إقرار المحكمة في مجلس الوزراء، وفي مجلس النواب. لكن في الواقع ما كان هناك وضوح لدى الكثيرين منا، أي الأمرين هو الأرجح في تعليل تصرفات الحزب القاطعة: الخوف على سلاحه، أم إرادة منع المحكمة. بيد أن هناك من ذهب وقتها إلى أن المحكمة وهواجسها هما الأساس، لأن المقاومة وسلاحها ـ ورغم غياب الإجماع الوطني من حولهما ـ ما كان يمكن تصور القدرة على التعرض لهما، دونما توافق وطني كبير. وهذا الأمر يظل صحيحا حتى اليوم.

وكان المحير في معارضة الحزب للمحكمة أن تقارير لجان التحقيق المتوالية، إنما كانت وقتها تضع سورية وحدها في عين العاصفة. وعندما كنا نسأل الذين ظلوا يقبلون الحديث معنا من الحزب على سر المعارضة الشديدة للمحكمة بعد الموافقة الأولية؛ كانوا يجيبون أحيانا إجابات شرعية، وأحيانا أخرى سيادية وسياسية. في المجال الشرعي كانت الحجة أن عقيدة الحزب لا تسمح بالموافقة على أحكام ستتأسس على قوانين طاغوتية أجنبية. وكنا نقول لهم: لكن القوانين اللبنانية مدنية أيضا ولا تتأسس على الشريعة، وما رأينا لأحد منكم «فتوى» تحرم الخضوع لها! أما في الجدال العلني فقد غلبت الحجتان الأخريان: حجة النيل من «السيادة»، وحجة التسيس أو الخضوع لإرادات الدول الكبرى. وقد جادلهم ـ وجادل أنصار سورية ـ كثيرون، بأن البقاء على هذه الحال من المحال، وسط الاغتيالات، وإرهاق الأمن، ونشر الاضطراب، وبخاصة أن أحدا من معارضي المحكمة لا يستطيع القول إن القضاء اللبناني يستطيع التصدي لتلك الأحداث الكبيرة.

وبدون طول سيرة؛ فإن المحكمة قامت أخيرا في مطلع الشهر الثالث من هذا العام. وكان بين أول إجراءاتها أو تصرفات رئيسها إطلاق سراح الضباط الأربعة الموقوفين على ذمة التحقيق في اغتيال الحريري لثلاث سنوات وثمانية أشهر. وقد ظن كثيرون ـ حتى من بين خصوم المحكمة أو غير المتحمسين لها ـ أن هذه الواقعة؛ وإن خيبت أوساطا واسعة من الجمهور وبعض السياسيين؛ فإن فوائدها أكبر وأرجح؛ إذ ستنتفي عنها اتهامات التسيس أو التحيز أو الخضوع لإرادات الكبار. لكن نواب حزب الله على الخصوص شكلوا جمهورا غاضبا من حول الضباط الطليقي السراح وبخاصة اللواء جميل السيد، وحملوا حملات شعواء على القضاء اللبناني. ثم إن الأمين العام للحزب فاجأ الجميع في أول تعليق له على إطلاق الضباط بأن تلك الواقعة لا تزيد الثقة بالمحكمة بل تضعفها بسبب التقلبات: فلا ينتظرن منا أحد أن نقبل مسبقا أو نسلم بما يصدر عنها! أما بعد مقالة «درشبيغل» السالفة الذكر؛ فإن الأمين العام للحزب استنتج من توظيف السياسيين الإسرائيليين لتلك المقالة: أن كل قرار من المحكمة باتجاه الحزب إنما هو قرار إسرائيلي، أما الذين يدعمون قرارا كهذا من أهل السنة؛ فإنهم إنما يريدون أن تأخذ لهم إسرائيل بثأر الحريري! ولا شك أن إسرائيل تعتبر حزب الله عدوا كبيرا لها. كما لا شك أن الصهاينة يسرهم أن يتورط الحزب في نزاعات داخلية بلبنان أو غيره تؤثر في مواجهته لكيانهم، كما استفادت وتستفيد مثلا حركة العدل والمساواة بدارفور من اتهام المحكمة الجنائية الدولية لعدوها الجنرال عمر البشير رئيس السودان. لكنني لست أدري كيف يتحدد الموقف من المحكمة نتيجة قدرة هذا الطرف أو ذاك على الاستغلال، وقبل ذلك: كيف يتأثر قرار المحكمة بهذا التوجه أو ذاك لإسرائيل؟!

ما وجد الاستقلاليون اللبنانيون، ودعاة قيام الدولة، وتيار الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وسيلة لإحقاق العدالة، وإيقاف سيل الدم المستمر على كبار رجالات لبنان منذ ثلاثة عقود، غير اللجوء إلى القضاء الدولي. وقد استجاب لهذه الرغبة في الإنصاف والانتصاف المجتمع الدولي، من خلال قرارات مجلس الأمن ذات الصلة. وكلام «درشبيغل» ليس كلاما منزلا، ولا مرجعية لغير المحكمة في كل ما يتعلق بالجرائم السياسية المرتكبة في لبنان، منذ العام 2004. لكن هذه التسريبات تدعو للتهيب. على أن التهيب والحساب والاحتساب؛ كل ذلك لا يدعو للنكوص على الأعقـاب، والعـودة لوضـع رقابنا على المقصلة بانتظار رأفة الجلاد. وهناك فرق ـ يصعب على أي حال ضبطه ـ بين إحقاق العدالة، والتصرف في النظام السياسي. ومن جهة أخرى فإن الحزب وقبل المقالات والاتهامات وبعدها، كان وما يزال يحكِم قبضته على أجزاء من الأرض والناس، وعلى القرارات الكبرى في البلاد. تارة بحجة التمكن من البقاء على أهبة الاستعداد لمواجهة العدو، وطورا بدون أية حجة. والجديد في خطاب الأمين العام للحزب، أنه ما عاد يكتفي بأن يصمت الناس ويصبروا، ويسألوا الله الفرج، بل يريدهم أن يعلنوا على الدوام عن سرورهم وإعجابهم وابتهاجهم بإنعام الله عليهم بالحزب ومآثره، أو يقعوا في مواقع الاتهام، ومخامرة العدو ولو بالنيات! والجديد في سياقات خطاب الأمين العام للحزب أنه قبل خطابه الأخير بيوم أو يومين، كان الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد قد صرح بأن النووي والأمور الأخرى المشابهة ما عادت موضوع تفاوض مع الخماسية أو السداسية؛ بل ما يستحق التفاوض هو المشاركة في إدارة العالم! وكان شأنه في ذلك شأن الأمين العام للحزب نفسه الذي قال في أحد خطاباته الأخيرة إنه يستطيع حكم أوطان تفوق في مساحتها لبنان مائة مرة!

هذا الخطاب بطرفيه مفاده: أنا أو لا أحد. وهو خطاب السنوات العشر الماضية حين كانت الذئاب وعلى رأسها الولايات المتحدة تتنافس على الفرائس. وهناك عودة الآن للحوار والتفاوض والوفاق. وذلك يتضمن التلاؤم، وقد يتضمن من أجل الضغط المحاسبة على الماضي أو التهديد بها. وخطابات نجاد والأمين العام للحزب تحتمل المزايدة قبل الانتخابات، لكنها تعني الضيق أيضا وعدم القدرة على التلاؤم والعودة للحيوات الوطنية العادية. وبين هذا وذاك تعاني الأوطان، ويعاني البشر. ولا حول ولا قوة إلا بالله.