فعذرا وسماحا

TT

سمعت على التلفزيون شاعرا لبنانيا صديقا يقول إنه تخطى فيلسوف فرنسا رينه ديكارت. فالأول، أي الفرنسي، تعاطى الفلسفة من خارجها، أما هو ـ الشاعر الصديق ـ فقد تناول كوامن الفلسفة وفكك رموزها وأيقظ هواجعها. ولست أريد أن أناقش. وهي مسألة غير مفتوحة للنقاش في أي حال. لكنني أحب أن أتساءل لماذا لا يقنع الشاعر الصديق بما هو. فهو شاعر له حجمه، وليس في حاجة لأن يكون أكبر من أحد أو أصغر من أحد. والمقارنة، أو المفاضلة، مع الرجل الفرنسي، تستدعي تدخل الأكاديمية الفرنسية ومعاهد الفلسفة الألمانية. وهذا عمل معقد، وخصوصا أن أعمال الشاعر الصديق لم تترجم بعد إلى أي من اللغتين.

كان الشاعر الملحمي الكبير بولس سلامة يقول إن العمل التالي الذي ينكبّ عليه سوف يُنسي الناس أعمال المتنبي. وكنت أقول له: لماذا لا تهنأ في مكانتك؟ فالعرب يحبونك ويقدرونك كما أنت. والتصدي للمتنبي لم يفد في الألف سنة الماضية، وقد لا يفيد كثيرا في السنوات العشر التالية.

لكن ذوي المواهب لا يقنعون ببساطة بما صاروا إليه. وقد أمضى جورج برنارد شو عمره يحاول أن يتقدم شكسبير. وعندما درت لندن الأدبية بغايات المسرحي الأيرلندي ضحكت في عبها وفي صفحاتها. فالكاتب لا يكون إلا ما هو، ودائما في إطار عصره وفي لغة عصره أيضا. ولو حاول نزار قباني أن يكتب بلغة امرئ القيس لاقتضى على قرائه أن يشتروا معجما مع كل نسخة من قصائده.

وحاول يوسف إدريس أن يكون تشيكوف آخر. ولم يستطع. لكنه نجح في أن يكون يوسف إدريس درجة أولى. وأمضى ميخائيل نعيمة عمره المديد يحاول أن يكون الصورة الأخرى لجبران خليل جبران. وبعد 90 عاما نجح في أن يكون الصورة الحقيقية لميخائيل نعيمة. لم يدرك نعيمة أن محاولته يائسة لأن جبران نقيضه تماما: واحد ذاب في عالم بوسطن ونيويورك وواحد سافر إلى الناصرة طفلا ثم إلى موسكو ثم إلى بولتافا (أوكرانيا) ثم إلى نيويورك. وترك كل هذا العالم خلفه ليعود إلى الشخروب وبسكنتا. ولما اكتشف نعيمة مدى الفارق بين جبران وبينه أمسك إزميلا وانهال على تمثال جبران تحطيما. وقد أُتعبت يده.

دونت في شبابي كتابات كثيرة في «الفلسفة». وكنت كلما قرأت كتابا خُيّل إليّ أنني قادر على أن أضع كتابا مثله. ولكن عندما أقرأ عدة كتب أكتشف أن ما كتبت «سطور لكن بماء» كما يقول جبران. ومع ذلك اعتذر من الشاعر الصديق، فربما يكون أعظم من أبي الفلسفة الفرنسية، ونحن لا ندري. فعذرا وسماحا.