أوباما: أنت في (المنبع الأول) للحضارة الإسلامية

TT

«نظهر تقديرنا العميق للدين الإسلامي الذي قدم الكثير والكثير جدا على مدى قرون لبناء الحضارة الإنسانية وتشكيلها».. باراك أوباما.

من المقرر أن يزور الرئيس الأميركي باراك أوباما المملكة العربية السعودية الأربعاء القادم، أي يزور نفس (المكان)، وذات (الموقع الجغرافي) الذي تفجرت فيه (ينابيع) الحضارة العربية الإسلامية، وهي الينابيع التي فاض فيضها الدفاق ـ من بعد ـ على العالم الإنساني كله: نورا وعلما ومعرفة وهداية وإبداعا وحضارة ومدنية.

لقد زار أوباما تركيا قبل قليل، وسيزور مصر بعد قليل، وهما دولتان مسلمتان لهما مكانتهما ووزنهما العظيمان في الحضارة الإسلامية: انتماء وإبداعا وقيادة.

ما مصدر.. ما منبع حضارتيهما في جوانبها الإسلامية؟. المصدر والمنبع، حيث أنت الآن أيها الرئيس الأميركي.. المصدر هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ـ فوق هذه الأرض ـ قبل 1443 عاما: الكتاب الذي بدأ بـ(مفاتح المعرفة): بالقراءة والقلم والعلم والتعلم: «اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم».

ولقد شهدت دمشق وبغداد والأندلس وغيرها من المدن الإسلامية، شهدت حضارات مضيئة.. ففي أي مكان كان (المنبع الأول) لهذه الحضارات؟. كان المنبع الأول ـ هاهنا ـ حيث أنت الآن، في المملكة العربية السعودية: النطاق الجغرافي والسياسي والاجتماعي اليوم لمنازل الوحي في مكة المكرمة والمدينة المنورة.

ونحن نعلم أن لك عقلا يحب الاقتناع من خلال التفاصيل.. واحتراما لعقلك نقدم نماذج تفصيلية من المنابع الأولى للحضارة الإسلامية التي تدفقت فوق ذات المكان الذي تزوره في الثالث من شهر يونيو عام 2009:

1- النموذج الأول هو أن هذا المصدر الأول للحضارة الإسلامية (القرآن) أعلن ـ في مكة ـ (وحدة الجنس البشري) في الأصل والنشأة الأولى: «وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة».

2- النموذج الثاني هو: أن المصدر نفسه أعلن ـ في مكة ـ أن وحدة الجنس البشري هذه يزيّنها ويجملها ويكملها: (تنوع) الألسنة والألوان: «ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين»، فهي لوحة ذات مضمون واحد، ولكنها متعددة الألسنة، متنوعة الألوان.

3- النموذج الثالث: أن المصدر الأعظم والأول للحضارة الإسلامية أعلن ـ في ذات المكان ـ (الكرامة العامة) لبني آدم جميعا، بمعنى أنها كرامة لا يستثنى منها إنسان بسبب عرقه أو لونه أو دينه أو مرتبته الاجتماعية أو مستواه الثقافي: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا»، فهي كرامة أصلية مولودة مع الإنسان وسارية في روحه وكيانه: ليست منحة ولا منة من أحد غير الله.

4- النموذج الرابع: أن المصدر الأول للحضارة الإسلامية الذي سطع نوره من هذه البلاد بادئ ذي بدء: أعلن سعة (التسامح الديني) من خلال الحفز على الإيمان بـ(الحق الديني كله). ومن هنا كان إيمان المسلم بموسى وعيسى ـ وبالتوراة والإنجيل ـ : شرط صحة في إيمان المسلم بمحمد نفسه: «قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون».

5- النموذج الخامس: أنه ـ هاهنا ـ، فوق هذه الأرض التي تزورها أيها الرئيس أوباما: أعلن المصدر الأول للحضارة الإسلامية (سلطان العقل)، وأعلى شأنه، وقرر له دوره الواضح والحاسم في فهم الكون: «وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون».. وفي فهم الدين: «إنا أنزلناه حكما عربيا لعلكم تعقلون».

6- النموذج السادس: إن إعلان سلطان العقل اقترن ـ في المصدر الأول للحضارة الإسلامية ـ بحفز العقل وإغرائه بالاتصال بالكون لـ(تسخير) طاقاته وذراته وقوانينه للارتقاء بحياة الإنسان وحضارته: «وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه».

وكما أن أشعة الشمس لا يمكن أن تحبس في مصدرها ومركزها، فقد امتدت الحضارة الإسلامية من مركزها الجغرافي الأول في جزيرة العرب ـ وبالتحديد في مكة والمدينة ـ إلى العالم البشري كله تقريبا.

ويسرنا أن نصحبك في رحلة فكرية إلى ما قاله مفكرون غربيون وشرقيون منصفون (غير مسلمين) عن (أثر) الحضارة الإسلامية ـ التي نبعت هاهنا ـ في الحضارة الغربية بوجه خاص، وفي الحضارة البشرية بوجه عام.. ومن هؤلاء المفكرين :

أ- الزعيم الهندي نهرو فقد قال :«والمدهش حقا أن نلاحظ أن هذا الشعب العربي الذي ظل منسيا أجيالا عديدة، بعيدا عما يجري حوله، قد استيقظ فجأة ووثب بنشاط فائق أدهش العالم. فقصة انتشار العرب في آسيا وأوروبا وأفريقيا.. والحضارة الراقية التي قدموها للعالم كانت أعجوبة من أعجوبات التاريخ. والإسلام هو الباعث لهذه اليقظة بما بثه من ثقافة وثقة ونشاط».

ب- ويقول المفكر الأيرلندي جون برنال: «صعد الإسلام صعودا فجائيا، وكان الأثر المباشر لذلك هو التنشيط الكبير للثقافة والعلوم، وقد أصبح الإسلام نقطة تجمع للمعارف الآسيوية والأوروبية، ومن ثم تدفقت في هذا المجرى المشترك سلسلة من المخترعات لم تكن معروفة ولا متاحة للتكنولوجيا اليونانية والرومانية».

ج- أما المفكر والكاتب الأميركي بول كينيدي فيقول: «إن قسطا كبيرا من الموروث الثقافي والعلمي الأوروبي هو في حقيقة الأمر (استعارة) من الإسلام والمسلمين».

د- وباراك أوباما نفسه قال ـ في تركيا ـ: «نظهر تقديرنا العميق للدين الإسلامي الذي قدم الكثير والكثير على مدى قرون لبناء الحضارة الإنسانية وتشكيلها».

ولم تكن النهضة التنويرية الكبرى التي قادها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المكان، وامتدت بآثارها الإيجابية المنيرة إلى العالم كله، لم تكن مجرد ذكريات تاريخية كانت ثم نسيت، إذ لا يزال السعوديون ـ قيادة وشعبا ـ يتمثلون هذه المواريث الدينية والحضارية ويحافظون عليها، ويتصلون بالعالم الإسلامي والإنساني من خلال روابطها التي تتجدد دوما ولا تتقادم قط.

إن أي زعيم ـ في عالمنا وعصرنا ـ يريد أن يقيم علاقات وثقى وكريمة وبناءة مع العالم الإسلامي، فإنه ملتق ـ ولابد ـ مع السعوديين، ومتواصل معهم لا محالة.. لماذا؟. لأن تاريخ الإسلام وحضارته ارتبطا بجغرافية المملكة العربية السعودية: الجغرافية الدينية، والجغرافية الطبيعية، والجغرافية البشرية.. ففي هذه الجغرافيا تنزل القرآن، وفوقها بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفوقها قامت أول دولة للإسلام.. وفي هذه الجغرافيا (قبلة) المسلمين في الصلاة، وفيها مؤدى فريضة حجهم، ومسجد نبيهم الذي تشد إليه الرحال.

وفي السعودية: نظام سياسي واجتماعي قائم على تلك المواريث.. وعلى الرغم من (الاختلاف الفلسفي) في طبيعة النظامين: السعودي والأميركي، فقد قامت بينهما ـ منذ أكثر من سبعين عاما ـ علاقات قوية عمادها: الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.. ومن المقدر أن تطّرد وتقوى هذه العلاقة في المستقبل في ظل هذين المبدأين: الاحترام والمصالح.. فالاحترام مبدأ أخلاقي ثابت.. والمصالح مستمرة لا تتعطل ولا تلغى.

بيد أنه في القضايا العامة نتطلع إلى أن نرى (أميركا جميلة): لا يخجل الكاتب المسلم من الإشادة بها أمام قومه.. ولطالما أعجبنا في أميركا أشياء: منعنا من البوح بها: قبح السياسات الأميركية تجاه القضايا العربية الإسلامية ولاسيما القضية الفلسطينية.. وصورة الإسلام.. نعم نتطلع إلى أميركا جميلة بأفعالها العادلة، ومواقفها الأخلاقية.

وليس هذا كثيرا ولا معجزا، وليس هذا ضد الولايات المتحدة، بل هو في صميم مصالحها وأمنها القومي.

والمشورة الناصحة لك أيها الرئيس أوباما هي أن (أميركا جميلة بأفعالها) هي أعظم وأجدى برنامج تطبيقي لتحسين علاقات الولايات المتحدة بالعالم الإسلامي. فإن الأقوال المفصولة عن الأفعال أو المضادة لها، لا تحسن الصورة، بل تزيدها تشويها من حيث أن الانفصال يدل على عدم الإرادة أو عدم الاستطاعة.