توريث الحكم وراء تهديدات كوريا الشمالية

TT

في أقل من أربعة أيام أوقفت كوريا الشمالية الدنيا على أطراف أصابع القدم، وسببت توترا في عواصم العالم، بينما لهثت الصحافة، ومعها المراقبون والمحللون، وراء تتابع التهديدات الصادرة عن بيونغ يانغ.

كان المراقبون عبر صفحات الصحف لا يزالون في محاولة التنقيب عن أسباب ودوافع إجراء كوريا الشمالية تفجيرها النووي الثاني تحت الأرض – وهو ما حاولت دبلوماسيتا أميركا والأمم المتحدة منعه، بالتهديد مرة، وبالمساعدات والوعود مرة أخرى ـ مساويا في قوته القنبلة التي ألقيت على ناجازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية. وتبعتها كوريا الشمالية بتجارب صاروخية، رافعة من حدة التوتر ولهجة الخطابة التهديدية ضد كوريا الجنوبية، واصفة قياداتها بالعمالة لواشنطن.

أرجع بعض المحللين الأسباب إلى شعور كوريا الشيوعية بتجاهل العالم لها، وبالتالي بدأت تتصرف كمراهق فاسد الخلق يسعى لجذب انتباه الأسرة والجيران والقرية بتصرفات طائشة ومشاجرات، فيسرعون للدخول معه في مباريات كلامية تزيد من شهرته المحلية، أو لتهدئة خاطره بهدايا لمجرد التمتع بالهدوء دون إزعاج منه؛ ومن ثم لا داعي للانزعاج لأن إطلاق بيونغ يانغ صاروخا نوويا على اليابان أو جارتها الجنوبية سيعني مسحها من الخريطة بهجوم أميركي.

خبراء عسكريون وأكاديميون كوريون هربوا من الحكم الشيوعي قالوا إن الخطر حقيقي ويجب التعامل معه بجدية. تركز جدلهم على أن صحة رئيس كوريا الشمالية ابن الـ 67 خريفا كيم يونغ ـ إيل، الذي يعاني من سكتة دماغية وعدم تسمية من يخلفه، مثلما فعل أبوه كيم إيل سونغ الراحل عام 1994، أشعلت، في الخفاء صراعا على من يخلفه.

ولإخفاء أنباء الصراع وإظهار قوة النظام، دفع الأخير بالخطاب العلني لاستعراض القوة العسكرية. ولأن الإعلام والبروباغندا والخطابة الغوغائية من أهم ركائز الديكتاتوريات الشمولية، فالغرض مزدوج، سياسي خارجي إقليمي (لأن الصواريخ الخمسة قصيرة المدى) للتعبير عن أن ضعف الرئيس صحيا، كما بدا في ظهوره الأخير، لا يعني تراجعا في القوة العسكرية أو عن طموحاته الإقليمية. وداخلي، وهو انحياز الرئيس إلى المؤسسة العسكرية والمغالاة في قوتها، خاصة أنها الركيزة الأساسية للديكتاتورية على حساب التيارات والأجنحة الأخرى التي لا قوة ولا تأثير يذكر لها في البلاد. وقد يتطور الأمر إلى مغامرة عسكرية لا يحمد عقباها عندما تفرغ جعبة النظام من البلاغة الكلامية ويتحرك العسكريون لإثبات وجودهم.

ومما رفع من حدة التوتر أنه بعد ذهاب الصحف للطباعة مملوءة بالتحليلات والتكهنات عن الأهداف الحقيقية لكوريا الشمالية، والتي أدت إلى انخفاض أسعار البترول الخام، وأسهم الشركات التي تستثمر في كوريا الجنوبية، فاجأت الديكتاتورية الحاكمة في بيونغ يانغ العالم بإعلانها، الأربعاء، تمزيق (معنويا) اتفاقية الهدنة التي وقعتها عام 1953 لإنهاء الحرب بين الكوريتين، والتي كانت ذروة العنف الذي بدأت معه الحرب الباردة وانقسم فيه العالم بين معسكرين؛ الحرية الليبرالية، والشمولية الشيوعية، للتقارب الزمني بين الحرب الكورية وأزمة حصار الروس لبرلين.

إعلان بيونغ يانغ أن هدنة 1953 لم تعد سارية المفعول وأنها ستهاجم كوريا الجنوبية، إذا اشتركت سفن الأخيرة مع السفن الأميركية وحلفائها في تفتيش السفن التي تعبر البحر الأصفر بحثا عن بضائع ومواد تصلح لإنتاج أسلحة الدمار الشامل؛ وهو ضمن عملية منع الانتشار بحريا، كجزء من العقوبات المفروضة على الشمال. اعتبار بيونغ يانغ ذلك سببا كافيا لإعلان الحرب، رفع توتر المراقبين، لأنه أعاد للذاكرة، تمزيق الديكتاتور العراقي الراحل صدام حسين لاتفاقية شط العرب في التلفزيون عام 1980 قبل بدئه العدوان على إيران، الذي أدى لحرب استمرت ثمانية أعوام. كما أن هناك تشابها كبيرا في الخطاب البلاغي والأسباب وألفاظ التهديد والمبررات التي يسوقها نظام كيم يونغ ـ إيل ضد كوريا الجنوبية كتبعيتها لأميركا وخنقها اقتصاد الشمال، مع خطاب ديكتاتورية البعث العربي الاشتراكي العراقي السابق ضد الكويت قبل غزوها عام 1990. ولتشابه النظامين؛ البعث السابق وكوريا الشمالية، تدق نواقيس الخطر والتحذير في العواصم المعنية، خاصة سيول وطوكيو، وطبعا بكين، لان انهيار نظام بيونغ يانغ في حالة الحرب سيؤدي على الأغلب إلى نزوح الملايين من اللاجئين الكوريين عبر الحدود إلى الصين.

وهناك سابقتا الاشتباك البحري بين الكوريتين في المياه نفسها عامي 1992 و2002 والتي راح ضحيتهما ستة بحارين من كوريا الجنوبية، و30 بحارا من كوريا الشمالية، بسبب تفوق أسلحة كوريا الجنوبية الحديثة دقيقة التصويب على أسلحة كوريا الشمالية القديمة غير المتطورة، لتوجيه النظام معظم الميزانية للسلاح النووي والصواريخ.

اجتماع العوامل الدولية، مثل ما أبداه الرئيس الأميركي باراك أوباما من الضعف والتساهل مع أنظمة مارقة، كإيران مثلا، وعجزه ـ مثلما نصحه خبراؤه العسكريون ـ عن اتخاذ عمل عسكري فعال؛ مع العوامل الإقليمية المذكورة، وإحساس كوريا الشمالية باضطهاد العالم الحر لها (وهي العقدة نفسها التي تعاني منها الأنظمة الشمولية وديكتاتوريات الانقلابات العسكرية غير المنتخبة) مع عوامل داخلية كانهيار الاقتصاد والحاجة لتحويل أنظار الشعب عن قصور أداء النظام، وقضية توريث الحكم، قد تدفع بيونغ يانغ إلى مغامرة عسكرية.

كيم يونغ ـ إيل تدرب علنا ليخلف أباه وكان رئيسا لأركان الجيش من 1991، بينما لم يسم خليفه ابنه الأصغر كيم يونغ ـ يون المعروف بطموحه وإرادته بالغة القسوة، وهو المفضل لديه، تلقى تعليمه في سويسرا ويتحدث الإنجليزية والألمانية. لكن ما يحول بينه وبين كرسي الرئاسة هو عمره فهو دون الـ 26 عاما ـ وهو يعتبر طفلا دون سن الرشد في الأنظمة الشيوعية التقليدية، وخاصة في المجتمع الكوري، حيث تحكمه تقاليد شبه قبلية.

وفي نظام شمولية عبادة الزعيم، يفتقد صفات أبيه الذي يروج الفلكلور الرسمي عن ظهور قوس قزح مزدوج في السماء لحظة مولده في 1942، كعلامة على قوته.

أحدى السيناريوهات أن يصبح صهر الرئيس يانغ سونغ ـ ثايك وصيا على كيم يونغ ـ يون حتى يتم تثقيفه سياسيا ومعنويا لدرجة رضاء الحزب الشيوعي وقادة الجيش، وهم القوة الحقيقية وراء نظام الحكم.

مفتاح التعامل مع كوريا الشمالية تمسكه الصين. فجميع المواد التي تدخل كوريا تمر عن طريق الصين، ولذا لن تنجح أية عقوبات اقتصادية دون تعاون الصين، ليس فقط في عدم استخدام الفيتو في مجلس الأمن، بل أيضا في إقناع بيونغ يانغ بأن تحديها للمجتمع الدولي سيكون له رد فعل من بكين. وهي أكثر قدرة على ما يدور في بيونغ يانغ وبرلمانها خاتم مطاطي في قضية توريث الحكم.

فما يدعو للقلق أن ضعف من سيخلف الرئيس كيم يونغ ـ إيل، قد يغريه بمغامرات عسكرية لإظهار عضلاته.