خارطة طريق أوباما لملاقاة مبادرة عبد الله بن عبد العزيز

TT

نستحضر ونحن نتأمل في نتائج الزيارة النوعية للرئيس التركي عبد الله غول إلى سورية ومحادثاته طوال الأيام الثلاثة التي استغرقتها الزيارة، وكانت في الجزء الأكبر منها حول معاودة إطلاق السعي التركي من أجل الانتقال بالمحادثات السورية ـ الإسرائيلية غير المباشرة إلى محادثات مباشرة تتم على ضفاف البوسفور.. إننا ونحن نتأمل في النتائج والارتياح الواضح على الوجهين الرئاسيين السوري والتركي نستحضر الوقفة الإنسانية لدواع إدارية أكثر منها سياسية لرئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان في منتدى «دافوس» يوم الخميس (29-1-2009) وكيف أنه بعدما كان استعاد هدوءه بخروجه الاحتجاجي من ندوة شارك فيها صديق تركيا شيمون بيريز رئيس الدولة في إسرائيل، قال في ما يشبه الفضفضة مع عدد من الصحافيين «إن الاتفاق السوري ـ الإسرائيلي كان يتطلب بعض الكلمات لاستكماله لكنه توقف بسبب غزة». ثم عاد وزاد توضيحا قائلا «كنا قريبين جدا من اتفاق سوري ـ إسرائيلي ليلة 27-12-2008 بعد محادثات دامت ست ساعات مع إيهود أولمرت، وبعدها بأيام فوجئنا بالقنابل تسقط على غزة، وبات من غير المنطقي أن تستمر الوساطة في الوقت الذي يكون هناك دمار في غزة». أما ما هي هذه الكلمات القليلة التي لها فعل السحر لكي تحقق اتفاق سلام بين سورية وإسرائيل، فإن الرئيس أردوغان تكتم عليها تاركا لمخيلة المراقبين والمتابعين مثل حالنا الافتراض والاستنتاج. وما يجوز افتراضه في هذا الشأن هو أن أهل الحكم الإيراني الذين يزعجهم تحقيق تسوية سورية ـ إسرائيلية بينما الموضوع الإيراني في المرمى الدولي، أشعلوا حريق غزة وفي تخطيطهم أن هذا الحريق سيربك أي مسعى للتسوية، إذ كيف سيوافق الرئيس بشار عليها بينما صواريخ أولمرت وبقية ذئاب وثعالب حكومته تنهمر كالمطر على الشعب الغزاوي ويسقط الشهداء بالمئات والجرحى بالألوف، فضلا عن التدمير الممنهج للبيوت والمؤسسات الأمنية والمستشفيات وإحكام الحصار بغرض التجويع والإذلال وإحراج الحكومة «الحماسية» التي تدير شؤون القطاع.

هذا الاستنتاج في محله على الأرجح لأكثر من حيثية لعل أبرزها أن العلاقة بين الحكم الإيراني وبعض قادة «حماس» وبالذات أولئك الذين يعيشون في الخارج جوّالين بين دمشق وطهران والدوحة مع إطلالات خاطفة على بيروت، من النوع الذي يصعب على الجانب الإيراني التراجع عنه ما دام السيف الدولي في حالة تهديد للعنق النجادي، كما يصعب على «حماسيي» الاغتراب التملص منه لأسباب مالية وأمنية.

استنادا إلى هذا الاستنتاج تكون إيران حققت المبتغى على حسابين:

على حساب أرواح سقطت كالخراف المذبوحة على أرض غزة وأبدان شواها السلاح المحرم دوليا وأرضا كان يعتاش من خيرات مواسمها أصحابها والفلاحون، وفجأة ذهب كل شيء ومن دون مردود يخفف من حرقة نفوس الأحياء على ما أصاب الأهل والأبناء والبنات والأولاد والأطفال، ومن دون أن يقلل الكلام الممنهج عن الصمود والانتصار واستمرار المقاومة من الصدمات التي نشأت وكانت بثقل الجبال. وعلى حساب اللهفة السورية لحسم موضوع التفاوض بعدما بقي من رحلة الألف ميل بضعة أميال قليلة.

ونحن عندما نتأمل في أسلوب تعامُل الرئيس بشار الأسد مع محنة الغزاويين نلاحظ أنه تعامُل من أسقط في يده، وذلك لأن المحنة مباغتة ولا تفيده في شيء على الإطلاق ما دام قرر المضي في التفاوض مع إسرائيل ووفق الوسيط التركي الصديق والمؤهل لتحقيق تسوية يمكن هضم حصاها، فضلا عن أنه بحكم الجيرة يمكن أن يكون حاميا غير عربي لهذه التسوية.

وقد نجد من يقول: إذا كان الأمر كذلك فما معنى هذه الإطراءة من جانب كبير المغتربين من قادة «حماس» خالد مشعل للرئيس بشار والقول له ما معناه إن له حصته في «انتصار غزة» خصوصا أن الإطراءة هذه جاءت عقب الخطوة النوعية الأولى على طريق رتْق الثوب العربي لاستعادة سورية إلى بني قومها، وهو ما كان الرئيس بشار يأمل فيه دائما، لكنه لا يحدث وتنتهز إيران النجادية التريث السعودي ـ المصري في انتظار أن يصحح المخطئ خطأه ذلك، فتلف الصديق الحليف بالمزيد من الخيوط البراقة كي لا يقوِض لها تطلعاتها من جهة ولا يتركها من جهة أخرى مكشوفة الظهر أمام استفراد المجتمع الدولي بها. ونجد أنفسنا هنا نقول إنه لو كان الرئيس بشار يدري أن هنالك مفاجأة مبهجة تنتظره في القمة العربية الاقتصادية التي استضافتها الكويت، لكان أطلق وهو في دمشق إشارات برسم كبير الأمة الملك عبد الله بن عبد العزيز و«توأمه» مِن حيث الرؤية العاقلة المتأنية الرئيس حسني مبارك، ولما كان على ما يجوز الافتراض أيضا شارك في «القمة الحَمدية» في الدوحة وترك للسانه يقول، مع أنه يترأس القمة الدورية التي تنتهي رئاسته لها يوم 28 مارس/ آذار 2009، ما معناه أن المبادرة العربية ماتت أو بحكم الميتة. فهذه المبادرة قرار جرى التصويت على تبنّيها بالإجماع في القمة الدورية في بيروت عام 2002 ولا يلغيها سوى قرار بالإجماع، لكن في استطاعة من يريد العودة عن الموافقة أن يتصرف شخصيا. والرئيس بشار لا مصلحة له في التملص من أمر وافق عليه، كونه بدأ التفاوض مع إسرائيل عبر الوسيط التركي تمهيدا لتفاوض مباشر كما كان يأمل ويأمل أردوغان، ثم خلطت إيران السكر بالملح بإشعالها حريق غزة فعادت الأمور من جديد إلى المربع الأول. ثم جاءت الخطوة الأولى على طريق لم الشمل بمبادرة على الملأ من الملك عبد الله بن عبد العزيز، وفي الوقت نفسه إبلاغ المجتمع الدولي وتحديدا الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما ويوم تنصيبه رسميا، تبعث بعض الطمأنينة في النفس البشّارية خصوصا أن خادم الحرمين الشريفين أبلغ الإدارة الأميركية قبل أن يقول في كلمته أمام قمة الكويت إن المبادرة العربية على الطاولة ولا يمكن أن تبقى عليها إلى ما شاء الله. وهذه العبارة التي هي أقل من إنذار وأكثر من لفْت نظر للعهد الأميركي الجديد وأيضا لدول الاتحاد الأوروبي عجلت في أن يكون الاتصال الهاتفي الأول للرئيس باراك أوباما، مع الرئيس محمود عباس وأن تكون إطلالته التلفزيونية الأولى على فضائية سعودية ومع صحافي عربي الأمر الذي له أكثر من معنى ومغزى والذي يثير الحسد وتداعياته الكتابية في نفوس إعلاميين أميركان أمثال توماس فريدمان.

ونخلص إلى القول إن هذه الحالات الثلاث مترابطة في شكل أساسي: الوساطة التي على الرف، والمبادرة التي على الطاولة، والمصالحة الفلسطينية التي هي على المحك. ولمجرد أن تتحقق المصالحة العربية التي تتحرك إيران للإبقاء عليها مجرد «كسر حالة الجليد» كما قال الرئيس بشار مخيبا الأمل في تصنيفه هذا يتم اجتراح معجزة المصالحة الفلسطينية سواء بالرضى أو حتى بعد حركة تصحيحية يقرر فيها فريق «حماس» المصحح أن الأولوية، بحكم المنطق والمصلحة الوطنية التي هي أهم بكثير من المصلحة الشخصية، بعد حريق غزة ومحرقة الغزاويين هي لـ«حماس الدولة» و«حماس المتصالحة» و«حماس» التي لا تدار بالمراسلة وإنما ميدانيا للتعجيل في الإعمار.. وبما معناه أن فريق «حماس الثورة» بالتحالفات والرهانات والاستدراجات غير المحسوبة النتائج، عليه أن يخلد إلى استراحة طويلة تشبه في بعض جوانبها استراحة أبو عمار ورفاقه بعد مغامرتهم اللبنانية إثْر المغامرة الأردنية، ومثل استراحة الدكتور جورج حبش الذي أقر بالواقع من دون أن يستسلم له حفاظا على تراثه واضعا مسؤولية القيادة بين أيدي جيل آخر. استراحة لمحاسبة النفس والترميم وإعادة النظر والاعتذار من اجتهادات غير جدية ولم تخدم على الإطلاق القضية. استراحة لاستعادة الروح والأمل.. وليست أبدا استراحة المحارب.

نخلص إلى القول أيضا إن لحظة الحسم هي في ملاقاة خارطة الطريق العاقلة للتسوية التي سيطلقها الرئيس باراك أوباما من الجامع الأزهر، على ما يجوز الافتراض، عندما سيزور مصر، للمبادرة الرائدة والواعية والبعيدة النظر التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز من القمة العربية الدورية في بيروت (أواخر آذار/ مارس) 2002 وحظيت بإجماع عربي غير مسبوق. ومن دون تلك المبادرة ما كان لخارطة الطريق الأوبامية أن تتبلور... وهذا مدعاة للتفاؤل بالخير الذي يمكن أن تجده الأمتان العربية والإسلامية ومعهما أمم الأرض من القطب إلى القطب.