ما زلت أماطل

TT

دعانا رجل على مأدبة عشاء في داره، وأخذنا خلال الأكل نتجاذب أطراف الحديث، وكان أكثرنا كلاما واستئثارا بالحديث هو صاحب الدعوة، وكان في كلامه واستشهاداته القليل من الصح والكثير من الخطأ، وأورد بيتا من الشعر نسبه (للمتنبي)، فلم أطق صبرا وصححت له معلومته، مذكرا إياه أن ذلك البيت إنما هو (للبحتري).

فاستاء من تدخلي واعتبر ذلك إهانة في حق ثقافته ومعلوماته، واحتدم الجدل بيننا، و(ركبت رأسي) كما هي عادتي عندما تداهمني نوبة (الحمق)، فما كان مني إلا أن أستغلها فرصة وأمد له يدي قائلا: تراهن؟!، قال: أراهن، واستقر رهاننا على مبلغ من المال هو الذي حدده، وفرحت من موافقته على الرهان لأنني متأكد من معلومتي، وزيادة مني في التوثيق قلت للحاضرين بصوت مرتفع: (شاهدين) ؟!، فأجابوا جميعا وهم يقولون: شاهدين.

وأخذت أفرك يدي ببعضهما من فرط السعادة وكأن ذلك المبلغ قد دخل واستقر في جيبي.

عندها توجهت بالسؤال للرجل الجالس أمامي مباشرة، وهو أغزرنا علما في هذا المجال بالذات، حيث إنه أستاذ متخصص في الأدب العربي.

وتوقف الجميع تقريبا عن الأكل ليسمعوا كلمة الفصل، وتفاجأت بذلك الأستاذ يركلني بقدمه من تحت الطاولة قائلا لي: أنت مخطئ يا مشعل فبيت الشعر هذا هو (للمتنبي).

وهلل وكبر صاحب الدعوة، بين استحسان وتهنئة الحاضرين، وأخذ بعضهم يقولون لي: خلاص راحت عليك، بل إن أحدهم قال لي: إذا لم تكن (قد) الرهان لماذا تورط نفسك فيه يا (فالح)؟!

ألقمت بالفعل حجرا كبيرا، وحزنت من موقف ذلك الأستاذ.

وعندما انتهينا وخرجت متوجها لسيارتي، وإذا بالأستاذ يلحق بي معتذرا ويقول لي: إن الحق معك، فذلك البيت هو فعلا (للبحتري) ولكنني لم أرد أن أفشل صاحب الدعوة خصوصا ونحن في داره.

أجبته بزعل: وماذا يفيدني اعتذارك عندما جعلتني أخسر الرهان، هل سوف تتكرم وتدفع عني المال؟!، صمت قليلا وقال: بالطبع لا، ولكنني أردت فقط أن أعطيك درسا بعدم (اللجاجة) ورفع الصوت والتحدي، ألا تعرف أن سيد القوم هو (المتغابي)؟!

واستمر يعطيني درسا في التحدي الذي وقع بين (الريح والشمس) وأيهما التي تستطيع أن ترغم رجلا على خلع ردائه، فزمجرت الريح وهبت واشتدت، وكلما زادت في عتوها ازداد الرجل تشبثا بردائه، عندها يئست واستكانت.

وأتى دور الشمس التي انبلجت بين الغيوم وهي تبتسم وترسل أشعتها المتواصلة على ذلك الرجل الذي أخذ العرق يتصبب من جبينه، وما هي إلا دقائق قليلة حتى خلع رداءه ليتحرر منه، فاللطف والدماثة يا مشعل هي التي تكسبك مودة الآخرين.

قلت له: بئس اللطف وبئست الدماثة التي تخسرني الرهان وتجعلني (أكع) المال وأنا صاغر رغم أنني على حق، والله لن أدفع المال مهما كان.

وما زلت أماطل.

[email protected]