أمر يستحق القلق بشأنه

TT

تعتبر مدينة مكسيكو سيتي من أكبر التكتلات الحضرية في العالم، وهي عبارة عن وادي جبلي يعج بـ20 مليون نسمة. وتحظى المناطق الغنية فيها بأناقة مانهاتن أو بيفيرلي هيلز، إلا أن أغلب المنطقة الحضرية تعتبر في أغلبها رملية أو غامضة. وهي عبارة عن مكان يسهل الاختفاء فيه.

وعلى الرغم من ذلك، وفي غمرة الفوضى والحياة الصاخبة التي يعج به المكان، لاحظت السلطات الصحية حالات وفاة جماعية غير معتادة ـ لم تتجاوز في بادئ الأمر أصابع اليد، إلا أنها تحولت بعد ذلك إلى عشرات الحالات. وقادت هذه الملاحظة إلى تحديد هوية نوع جديد ذي خطورة كامنة من الإنفلوانزا، والآن بات واضحا أن الحكومات في شتى بقاع الأرض تعمد إلى إصدار تقارير استشارية للسفر، وتعد مخزونات الأدوية، وتفحص المستشفيات بدقة لاكتشاف أي حالات محتملة يشتبه في إصابتها بإنفلوانزا الخنازير، في الوقت الذي تنصح فيه المواطنين بعدم الجزع.

وتوضح الاستجابة الأولية لتفشي مرض الإنفلوانزا، التي يحتمل تحولها إلى وباء، لنا في المقام الأول مدى حساسية واستجابة النظام الرقابي الصحي العالمي، الذي أصبح عليه. وإذا ما كان العالم ذاهبا نحو الخراب من مرض معد، فسوف تتجلى لنا فرص رؤية قدومه.

وبعد كل هذا، لم تكن حالات الوفاة الحادثة في مكسيكو سيتي، التي حملت المسؤولين على إطلاق تحذيراتهم ودق ناقوس الخطر، استثنائية للغاية، فمن المتوقع أن يقضى الأشخاص متأثرين بالإنفلوانزا خلال الموسم الخاص بها، إلا أنه لم يكن من الطبيعي أن يموت بالغون أصحاء شباب نسبيا من الإنفلوانزا كما حدث. لقد كان هذا إنجازا حقيقيا بالنسبة للسلطات أن تلحظ القليل من حالات الوفاة الغريبة، ثم تعمد بعد ذلك إلى توصيل النقاط بعضها بعضا.

ويوضح رد الفعل أيضا نحو هذا النوع الجديد من الإنفلوانزا، الذي يجمع صفاتا جينية من إنفلوانزا الطيور، والخنازير، والبشر، كيف أننا استغرقنا الكثير من الوقت في القلق من الكوارث المحتملة الخاطئة حيال هذا الأمر.

ويلقي كثير من خبراء تحديد المخاطر فيما يتعلق بالقلق الموجه بصورة خاطئة باللوم على عامل «الفزع»، ويتمثل المثال التقليدي في ذلك في السفر عبر الطائرة. إذ إن فكرة الموت في حادث طائرة تعتبر مفزعة للغاية، للدرجة التي تحمل بعض الأفراد على رفض السفر بالطائرة، حتى مع توضيح فكرة أن هناك احتمالية كبرى بأن يقضى الشخص في حادثة لدى توجهه إلى المطار بالسيارة.

وبالمثل، عندما ننظر كدولة إلى المخاطر الكامنة في عالمنا الحالي، ينصرف انتباهنا تلقائيا إلى أكثر الاحتمالات المروعة. يذكر أنه وأنا في صغري، كنا نخشى حدوث مواجهة نووية شاملة مع الاتحاد السوفياتي، وكنا نتلقى تدريبات «على الاختباء» واتخاذ مأوى أسفل المناضد في المدرسة الابتدائية، كما لو كانت الصواريخ الباليستية العابرة للقارات لا تأثير لها على مناضدنا الدراسية الصلبة. واليوم، ما زال لدى الروس من الأسلحة النووية ما يكفي لتحويلنا إلى فتات، إلا أنه لم تعد هناك أي مخاوف من حدوث ذلك. وبدلا من ذلك، فإننا نركز على احتمالية حصول الإرهابيين بصورة أو بأخرى على السلاح النووي، وأن يقدموا على تفجيره في مدينة أميركية.

وينم ذلك عن أن نقاشات السياسة الخارجية الخاصة بنا هذه الأيام ترتكز على باكستان المبلية بالاضطراب وانعدام الاستقرار، وهي تملك السلاح النووي هي الأخرى، وإيران التي تبذل قصارى جهدها للحصول عليه.

ومن الواضح، أنه يتعين أن تكون هذه المنطقة على قمة أولوياتنا، ومع ذلك، يتعين علينا أيضًا التفكير في التهديدات الأخرى، التي توجد احتمالية كامنة بها في أن تسبب قدرا مهولا من الخسارة في الأرواح، أكثر من أي هجوم إرهابي آخر يمكن تصوره، وبات واضحا أن هذا الطيف أشد قربا بالنسبة لبلادنا.

لقد أسفر وباء الإنفلوانزا، الذي تفشى عام 1918، إلى مقتل عدد قدر بـ50 مليون نسمة بجميع أنحاء العالم. ولا يوجد دليل يفيد أن نوع إنفلوانزا الخنازير الجديد على مقربة من أن يكون فتاكا في أي مكان مقارنة بإنفلوانزا عام 1918، وفي الحقيقة فإن الحالات التي تم تحديدها في الولايات المتحدة أفضت حتى الآن إلى دخول حالة واحدة إلى المستشفى، فيما لم تسفر عن حدوث أي وفيات. إلا أن المسؤولين أعلنوا عن حالات الطوارئ، علاوة على مراقبة انتشار المرض عن كثب، وذلك لأنهم يدركون، بتفصيل تراجيدي، ما الذي يمكن أن تجلبه إلينا من دمار على شاكلة إنفلوانزا عام 1918.

وقبل عدة سنوات، وتحديدا عندما انتشرت إنفلوانزا الطيور في آسيا، اتصلت ببضعة خبراء في تحليل المخاطر للحصول على تعليقاتهم حيال الأمر، وتوقعت منهم قول أنه يتعين على الجميع التزام الهدوء. إلا أنهم وبدلا من ذلك، قلوا لي إنه إذا ما كان هناك أحد يبحث عن كارثة كامنة حقيقية ليقلق بشأنها، فسيكون وباء الإنفلوانزا المميت خيارا مثاليا بالنسبة له.

ولا يعلم المسؤولون أحجية أن حالات إنفلوانزا الخنازير في الولايات المتحدة تبدو أكثر اعتدالا عن مثيلاتها في المكسيك. وهم يعلمون جيدا أنه ما من عائق تماما على الحدود الأميركية المكسيكية يمكنه أن يعوق انتقال الميكروبات.

وبالرجوع مرة أخرى عندما كنا نتخفى أسفل المقاعد المدرسية مخافة حدوث هجوم سوفياتي، كان من الممكن أن تمر مثل هذه الحالات القليلة المصابة بإنفلوانزا الخنازير دون أن يتم اكتشافها. وشأنها شأن حالات تفشي الأوبئة الأخرى، فثمة احتمالية لأن يتم احتواء هذا النوع أيضا. وفي الوقت الحالي، سأعمد إلى غسل يدي أكثر من المعتاد.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ(«الشرق الأوسط»)