قصص التاريخ وصراعات اليوم

TT

أكبر الأكاذيب هي تلك التي يصدقها أكثر الناس، ومن بينها كذبة اسمها التاريخ. فالبعض منا يتعامل مع التاريخ وكأنه شيء مفروغ منه وغير قابل للمساءلة، وأن قصة التاريخ التي بين أيدينا هي الحقيقة، وما عداها تحريف أو تزييف أو تزوير. واتصالا بهذا التصور، يصدق البعض كذبة أخرى اسمها التعلم من التاريخ، فغالبا ما نزوق خطابنا عن الماضي بالقول إنه ضروري لنتجنب الوقوع في نفس الأخطاء، ولكننا دائما نقع فيما ندعي أننا نتجنبه. في الحقيقة إننا عاجزون عن التفريق بين شيئين مختلفين، التاريخ والماضي، فالأول هو قصة حكاها أو كتبها أحدهم أو بعضهم، وهي قد تقترب أو تفترق عما حصل فعلا في الماضي، وقد تواجه تحديا من قصة أخرى تقدم رواية مختلفة، ومن هنا شاعت مقولة إن التاريخ هو القصة كما يكتبها المنتصرون، ففي النهاية ليس مهما مصداقية أي من القصتين، بل قدرة أي منهما على أن تصبح «تاريخا رسميا» تفرضه السلطة الاجتماعية أو الدينية أو السياسية وتلقنه عبر الأجيال، وهذا ما حصل ويحصل دائما، ومع تكراره يمكننا أن نتصور كم من قصة للتاريخ قد رميت في ثنايا النسيان، وكم من تاريخ نصدقه هو في الحقيقة قابل للمساءلة في بعض جزئياته أو في كليته. من هنا ظهر علم التاريخ في الحقل الأكاديمي ليكون تنقيبا صارما في قصص وبقايا وشواهد وآثار الماضي بلا نزوع لاعتناق قصة ما سلفا، وبلا خضوع لأي إغراء أيديولوجي، إذ إن قصص التاريخ عادة ما تكون محملة بانحيازات أيديولوجية تؤله ملوكا وتتوج أبطالا وتشيطن أعداء. وللأسف فإن الكثير من منجزات البحث التاريخي العلمي والأكاديمي التي تجري في الجامعات العالمية المؤهلة لا تصل إلى الناس لأنها تحمل كشوفات كثيرة تناقض «أساطير» ما زال الملايين يصدقونها، بل ما زال بعضها يشكل عصبا رئيسا في البناء الثقافي والقيمي.

الماضي هو شيء مختلف عن التاريخ بهذا المعنى، هو كل ما حدث فيما مضى من أحداث وكوارث وتجارب وحروب وإنجازات رسمت مجرى حياة أمم وشعوب وتسللت إلى وجدانهم وأسهمت في قولبة ثقافتهم ومن ثم شخصياتهم، الماضي هو التاريخ بلا قصة، هو الأمس الذي انقضى، والساعة التي مرت. عندما تنتزع من الماضي قصة ما فأنت تكتب تاريخا، وعندما تكتب التاريخ تكون قد دفعت بالماضي كما تراه إلى الحاضر ليزاول دورا راهنا، وعندما تكون القصة صارمة وحادة وقطعية.. ومقدسة، تكون قد كبلت الحاضر تماما في إسار الماضي، وتلك هي المعضلة. نحن نعيش في منطقة ذات ماض عريق، نفتخر بأن أولى الحضارات قد نشأت على أرضنا، وفيها اخترعت الكتابة وسنت أول القوانين، وبين ظهرانينا ظهر الأنبياء والرسل والديانات السماوية، يتسلل هذا الفخر إلى زوايا تكويننا الاجتماعي والنفسي ليمنحنا ثقة مفرطة تصل أحيانا حد التعالي على الآخر الذي لا يمتلك الحقيقة التي نمتلكها وليس مرشحا لخلافة الأرض مثلنا، والشخصية العربية تعيش بسبب ذلك تناقضا عصيا بين تفوق تستشعره لنفسها بسبب ما يقوله تاريخها لها ودونية تستشعرها بسبب ما تراه من تفوق الآخر عليها حاضرا. ومن هنا كان الصراع محتدما طوال القرنين الأخيرين بين من يريد العودة بنا إلى الماضي كوصفة وحيدة لاستعادة المجد والتفوق، وبين من يريد التنكر تماما لهذا الماضي بوصفه مكبلا لنا وعائقا عن اللحاق بالآخر. والمشكلة أن مجتمعاتنا عجزت عن أن تخلق تيارا وسطيا يزاوج الأصالة مع المعاصرة، يتفاهم مع ذهنية وثقافة المجتمع دون أن ينعزل عن متطلبات العصر وحاجاته. بالطبع سيرفض البعض ذلك بادعاء أن غالبيتنا هي من هذا النوع الوسطي، لكن هناك فرقا بين أن نتصرف كذلك بحكم الواقع والضرورة وبين أن ينتظم تصرفنا في بنية ثقافية واعتقادية تشرعنه وتؤصله، ولذلك فإن ثوب العصرنة الذي يرتديه كثير منا يغطي محتوى مختلفا تحكمه عقلية أسيرة للماضي وحكاياته.

الصراع السني ـ الشيعي الذي انفجر بما يشبه الحرب الأهلية عام 2006 في العراق، والذي ما زالت براكينه الخامدة قادرة على إلقاء حممها، والذي ما زال التوازن الدستوري والسياسي الهش في لبنان عائقا مؤقتا ولكن ليس نهائيا أمامه، والذي تنجر المنطقة إليه تدريجيا بشكل مخيف ينذر بحرق الأخضر واليابس إن أصبح أسرى الماضي هم أصحاب القرار، هذا الصراع في جوهره بدأ حول أي قصة من قصص التاريخ هي الصحيحة، ثم تطور فيما بعد ليصبح هو القصة بذاتها، وصار بالإمكان أن يكره السني والشيعي أحدهما الآخر كبديهية، بل وأن يقتل أحدهما الآخر، وكأن لا إمكانية لأن يبقيا معا على قيد الحياة. هذا الصراع هو نموذج لقدرة الماضي على أسر الحاضر ولعجزنا عن أن نسائل روايات التاريخ، بل ولإصرارنا على تقديسها، فكل طرف يعتبرها صحيحة ونهائية ويصف الأخرى بأنها محرفة أو كاذبة أو مزورة، كل طرف يمتلك نفس القابلية على العودة إلى تراث الماضي لإسقاط معتقداته عليه وإعادة إنتاج قصته، وكل طرف قادر على أن يقنع الجميع عدا الطرف الآخر. الذين يقولون تعالوا نحتكم للتاريخ كي نصل للحقيقة، إنما يسهمون من حيث لا يقصدون في إدامة الصراع، لأن التاريخ مجددا كان أسيرا لذات الصراعات وكتب تحت وطأتها وليس هناك ما يدعونا لنفترض أن من كتب الماضي كان أكثر حيادية منا، وحتى لو كان الأمر كذلك سنجد في التاريخ ما يزكي كلتا القصتين، وإن أمعنا أكثر سنجد فيه ما يدحضهما معا، فالتاريخ السائد وفق أحدث المناهج العلمية هو الطريقة التي نشكل بها الماضي وليس هو الماضي بالضرورة. ما نحتاجه في الحقيقة هو أن ندرك أن علة الخلاف بذاتها لا تستدعي صراعا في الحاضر، بل ولا تستدعي عداء وجوديا، وأن ما يلوح اليوم كحرب شيعية ـ سنية باردة هو صراع إرادات سياسية في منطقة تعيش تحولا، وتنتقل فيها مقومات القوة من مكان لآخر، ولعل هذا التحول هو الثابت الوحيد في التاريخ.