الخبز أولا

TT

للخبز مكانة عجيبة في تراث الشعوب وسياساتها. حيثما التفتنا في تاريخ الثورات والحروب واجهنا هذا الشعار: «الخبز للجياع»، كل ذلك رغم أن كثيرا من الشعوب لا تعتمد على الخبز كطعام أساسي. في الهند وشرق آسيا يعتمدون على الرز. في الجزيرة العربية يعتمد البدو على التمر. ولكنني لم أسمع أحدا يهتف «التمر للجياع»، رغم أن ما وردنا من التراث النبوي يشير غالبا إلى التمر وليس إلى الخبز. وفي أوروبا يعتمدون على البطاطس. ولكن عندما سألت ماري أنطوانيت ما الذي يريده هؤلاء المتظاهرون قالوا لها إنهم يطالبون بالخبز. فقالت: دعهم يأكلون الكعك. لم تقل دعهم يأكلون «الجيبس» أو الفريت أو البطاطا. فلو فعلت ذلك لربما حالت دون وقوع الثورة الفرنسية. ولهذا تجدونني من المؤمنين بضرورة سن مادة خاصة في الدساتير تنص على أن: «تلتزم هذه الدولة بتوفير الخبز والصمون والكعك والكليجة لسائر قطاعات الشعب». وهو في رأيي أهم وأجدى من كل هذا الكلام السخيف عن الديمقراطية واستقلال السلطات وشكل الحكم.

طالما قيل إن الشيوعيين في العالم العربي كانوا يحملون المظلات عندما تمطر السماء في موسكو. لم أرهم يفعلون ذلك، ربما لأننا لم نملك مظلات. ولكنني سمعتهم في المظاهرات يهتفون دائما «الخبز للجياع!» كلما تعرض الرفاق في موسكو للجوع. فلم يكن العراق في العهد الملكي يعاني من أي مجاعة.

ربما يعود هذا السحر المرتبط بالخبز إلى ما جاء في الكتاب المقدس. فالعبادة المسيحية تشمل الدعاء «هاتنا ربنا خبز يومنا». ومع ذلك فإنني وجدت المسيحيات في العراق يبدعن في طبخ الكبة، وليس في صنع الخبز.

«نعمة الله» هي الكلمة التي اعتدنا على استعمالها مجازيا في تسمية الخبز. واعتبرنا أي إساءة لها أو قلة احترام إساءة للخالق تعالى. حيثما نجد كسرة خبزة منها ملقاة على الأرض نلتقطها ونضعها على رأسنا، ثم نحملها إلى مكان مرتفع ولائق بعد أن نقبلها. حدثني صديقي محمد سعيد خفاف، التاجر العراقي الكردي، أنه عندما بدأ حياته العملية، حذره والده من التجارة بالحبوب. قال له الحبوب هي قوت الشعب وأنت كتاجر تسعى لزيادة سعر بضاعتك فتكون سببا في إرهاق الفقراء. ابتعد عن هذا الخط الحرام. فتحول أبو كاوا إلى تجارة الصوف على اعتبار أن الغنم من الكائنات الوحيدة في العراق التي لا تتعرض للاعتقال والسجن والإرهاب ولا يسألها أحد عن دينها وطائفتها وهويتها.

www.kishtainiat.blogspot.com