خطوط الانحدار السلس

TT

بعد إصدار مذكرات وزارة العدل الأميركية التي تتناول قضية الاستجواب القسري، قدمت إدارة أوباما تأثيرا غير متعمد، يتمثل في أن الكشف عن هذا السياق والاهتمام بهذه القرارات جعله مفهوما أكثر، وليس العكس. ودوما ما كنت أنظر إلى الاستجوابات القاسية على أنها أمر خاطئ، فالحرب على الإرهاب تعتبر صراعا أيديولوجيا بصورة كبيرة، شأنها في ذلك شأن الصراع العسكري، وبالجمع بين ما حدث في معتقل أبو غريب والكشف عن أساليب الاستجواب عبر الإيحاء بالغرق، فقد كان لكليهما أثر فعلي في خسارة المعركة. ويعتريني قلق بالغ أيضا من أن مثل هذه الأساليب المستخدمة قد تفضي إلى وجهة نظر من شأنها تجريد العدو من صفاته الإنسانية ـ ودوما ما تمثل هذه مخاطرة في أوقات الحرب ـ ومن ثم ييسر ذلك الانحدار السلس نحو إساءة المعاملة وانتهاك الحقوق. إلا أن مذكرات وزارة العدل كشفت عن نوع مختلف من المشورة المدروسة جيدا، المتمثلة في شق الحكومة لطريقها عبر مخاوف مشابهة حتى بعد كم الاستفزاز الهائل، وكانت الحكومة على قناعة بأن الهجمات الجديدة وشيكة، إلا أنها لا تزال تفكر مليّا في حقوق القتلة المأسورين، ومن ثم كانت ترسم الأطر للحيلولة دون حدوث عاهة مستديمة للإرهابيين خلال عملية الاستجواب، كما كانت على دراية تامة بالقوانين المتعلقة بالتعذيب وعقدت العزم على عدم انتهاكها.

وتاريخيا، هل مر على أميركا وقت من قبل أولت فيه مثل هذا التفكير المضني فيما يتعلق بتبعات أفعالها وتصرفاتها إزاء تأمين البلاد؟ أو في حقوق الأطفال الذين تحولوا إلى رماد تذروه الرياح خلال عمليات قصف مدينة درسدن خلال الحرب العالمية الثانية؟ أو الصحة العقلية والبدنية على المدى البعيد للبالغين في هيروشيما؟ إنه لا يمكن حتى مضاهاة أكثر الأساليب المثيرة للشكوك المستخدمة خلال الحرب على الإرهاب مع تلك الأساليب الشائعة في الحروب الأميركية الماضية.

وتثير مذكرات وزارة العدل تساؤلا، ألا وهو: هل يمكن في يوم من الأيام تبرير استخدام أساليب الاستجواب القسرية؟ مثالا على ذلك، سنجد أن قليلين من الأميركيين سيعارضون مجرد صفع الإرهابيين خلال عملية الاستجواب، حتى وإن تمخض هذا عن انتزاع معلومات استخباراتية بالغة الأهمية. حسنا، سيتم استخدام الحد الأدنى من الأساليب القسرية، ويهيمن على ذلك هدف إنقاذ الأرواح. من ناحية أخرى، سنجد قليلين من الأميركيين ممن يؤيدون الضغط على الإرهابي من خلال تعذيب طفله. ولا يمكن تبرير مثل هذا الفعل المشين من أجل السعي وراء الحصول على نتيجة غير مؤكدة بصورة ضمنية، حيث إنه بذلك يتم تأمين الحصول على معلومات قد تحول أو لا تحول دون إحداث خسائر مهولة في الأرواح.

على هذا الأساس، يمكن أن يكمن استخدام أساليب الاستجواب القسرية على أساس متوازن بين الأخلاق والمخاطرة. ويجب أن يتم رسم خطوط بصورة أو بأخرى على الانحدار السلس، وهي المهمة العصيبة التي أجازها محامو وزارة الدفاع. وبناء عليه، على أي هذه الجوانب يمكن أن نضع عملية الإيحاء بالغرق؟ هذه هي القضية الأصعب. إن هذه الممارسة على وجه الخصوص لا تزال حتى الآن أمرا باعثا على القلق العميق بالنسبة لي، وقد حجبت الاستخبارات المركزية الأميركية في عام 2003 هذه الممارسة بعد أن تم استخدامها على ثلاثة إرهابيين. وقد علم بعض أعضاء الكونغرس ـ وهم معروفون حاليا ـ عن هذا الأسلوب، وعمدوا إلى تمويله. ولم يكن القرار سهلا أو واضحا بالنسبة إليهم. كما كان صعبا تماما بالنسبة لمسؤولي الاستخبارات ووزارة العدل خلال أشهر الشك التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر (أيلول).

إنني أحترم الكثيرين ممن قالوا «لا» فيما يتعلق بالاستجواب القسري، كما إنني أحترم أيضا المناهضين للعنف ممن على يقين بأن نزوع الحكومة إلى استخدام العنف والقسر يعد خاطئا. ويمكن لهذا الموقف أن يكون نوعا من الثبات الأخلاقي المثير للإعجاب، كما أن هناك بعض من ضحوا طواعية إزاء هذا الأمر. ومع ذلك، فإن التمسك بهذا الرأي لا يعد خيارا لمن في الحكومة، وهي المنوطة بحماية المواطنين، سواء كانوا يؤمنون بهذا الموقف أم لا. وقد يتضمن الانصياع والالتزام بهذا المبدأ تضحية غير مقصودة بالنسبة للكثيرين.

ويرفض البعض هذا الرأي، مبررا ذلك «بالنسبية الأخلاقية»، أو عبر تأكيده على زعم أن الغاية تبرر الوسيلة. إلا أن هذا ينم على سوء فهم للأخلاق ذاتها. إن أصعب القرارات الأخلاقية في الحكومة هي التي تكون هناك حاجة ملحة لاتخاذها عندما تتعارض صفتين أخلاقيتين. إن أغلبنا يؤمن بسمو النفس البشرية، وهو المبدأ الذي يشمل حتى من يقترفون الآثام العظمى. كما أن أغلبنا يؤمن بمسؤولية الحكومة في حماية الأبرياء من الموت أو التأذي. ويسعى مسؤولو الحكومة بصورة حثيثة وراء كلا هذين المبدأين الأخلاقيين في عالم معقد ومتشابك. وبالنظر إلى الأحداث الماضية، فإنهم أحيانا ما يضلون الموازنة بين هذين الأمرين. ومع ذلك، فإن قرارات الأمن القومي لا تُتخذ على أساس استعادة الأحداث الماضية والتأمل فيها. وفيما يتعلق بهاتين الحقيقتين، يخالجني شعور بأن أغلب الأميركيين سيصلون إلى نتائج مؤكدة: إنه يتعين أن يكون هناك افتراض موسع ضد إجراء حكومتنا لعمليات استجواب قاسية. ومن الممكن أن يؤدي نطاق الإجازة إلى إضعاف الثقة في الجرائم المرتكبة بسجن أبو غريب. ولكن ربما يحتاج المسؤولون الأميركيون في أشد القضايا خطورة ـ عندما يكون التهديد بوقوع هجوم إرهابي واضح وخطير ـ إلى استخدام أساليب الاستجواب القاسية، وفي الوقت ذاته حماية الإرهابيين من مغبة الإصابة بعاهة مستديمة. وقد تكون هذه الطريقة ثابتة في مذكرات وزارة العدل الأميركية.

وما زلت أشعر بالتضارب حيال هذه القضايا. وقد تكون هناك أساليب فعالة أخرى على قدم المساواة للحصول على المعلومات من الإرهابيين، وحتى أكون واضحا، فأنا لا أعلم ما يكفي عن هذه الأساليب. وقد يكون قد تم تكوين رأي خاطئ عن عناصر برنامج الاستجواب، إلا أنه لم تكن هناك نداءات واضحة أو جلية، كما إنها تستحق أكثر من الأحكام السطحية القائمة على الأحداث السابقة.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»