التجسس والتواطؤ

TT

أكثر من دافع دفعني لأكتب عن الموضوع نفسه للأسبوع الثاني على التوالي. الدافع الأول هو أنه موضوع مستمر ولم يقارب نهايته بعد وأنه انتقل إلى مستوى عال في مؤسسة وطنية رفيعة تتمتع بسمعة عالية ولها تاريخ مشهود، والأمر الثاني هو أن لبنان ليس البلد العربي الوحيد الذي تنخر في أعصابه شبكات تجسس تنال من المقاومين والمخلصين والوطنيين والتواقين لأن يروا بلدهم حرا قويا عزيزا بعيدا عن الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية. الدافع الثالث هو الاستخفاف الذي واجهه هذه الموضوع الخطير والذي يؤثر على مصير الأمة ومقدراتها ومستقبلها من قبل وسائل الإعلام العربية والأجنبية. وقد كتبت في الأسبوع الماضي أنني أفهم لماذا تجاهلته وسائل «الإعلام الحر» الغربي ولكن لا أفهم لماذا تجاهلته معظم وسائل الإعلام العربية أم أن هذه الوسائل تنطق بالعربية فقط كلغة ولكن دون شعور بالانتماء للعروبة ومصالح الأمة. والدافع الأخير وربما الأهم اليوم هو أن أستطلع مع القارئ تاريخ بعض المتواطئين والجواسيس ومصيرهم على أيدي أسيادهم وكيف لم تشكل تلك التجارب درسا لمن يريد أن يعتبر، وواجب وسائل الإعلام وأساليب التربية أن تبرز ذلك الدرس ليشكل عظة للأجيال كي لا تقع في مثل هذا الهوان.

الهوة الشاسعة في هذا الموضوع تمثلت في الفرق بين ردود الأفعال الشعبية من جهة والإعلامية والرسمية في عالمنا العربي من جهة أخرى. ففي الوقت الذي يشكل فيه هذا الموضوع حديث الشارع العربي ويمثل أهم موضوع في أحاديث من يحرثون الأرض ويروونها بعرق جبينهم كي لا يعبث بمحصولهم خائن ومتواطئ يلبس لبوس الابن أو الجار أو الأخ أو الصديق أو الزميل أو الرفيق، الأمر الذي يضع كل الناس الطيبين في حيرة من أمرهم. أهو قليل أن تفتح الباب والدة الأخوين المجذوب لترد على سؤال سائل عن بعض الدعم للمحتاجين فلا ترده خائبا ويسألها ما إذا كان هذا منزلها أم منزل ابنها وأين يقطن ابنها لتكتشف بعد نشر الصورة أنه هذا هو العميل الذي تسبب في مقتل ولديها وحرص على توفير طريق آمن لضابط الموساد الإسرائيلي الذي قام بهذه الجريمة الخطيرة كي يفلت من العقاب. أولم يرَ هذا وغيره كيف عاملت إسرائيل جيش أنطوان لحد وكل من تواطأ معهم؟ أو لم يقرأوا تصريحات المسؤولين الإسرائيليين الذين طالبوا بمعاملتهم ببعض الاحترام لأنهم لم يواجهوا سوى المهانة والذل والفقر بعد أن عبروا حدود الوطنية اعتقادا منهم أن أعداءهم سيوفرون لهم ما كانوا يعدونهم به حتى أن الصحف الإسرائيلية ذاتها كتبت كيف يعيش بعضهم على القمامة وكيف وضعوا في مخيم في منطقة معزولة وعوملوا باحتقار شديد. ماذا يتوقع من يخون أرضه وأهله وشعبه؟ أيتوقع أن يثق به العدو الذي وإن أدى غرضه فهو لم ولن يحترم خائنا أو متواطئا أو جاسوسا والتاريخ أمامنا مليء بالشواهد. أين هي أسماء الشخصيات التي استدرجت القوات الأجنبية إلى بلدانها وتعاملت وتواطأت معها في السيطرة على شعبها؟ وقارنوا بين هذه الأسماء وبين أسماء الذين استشهدوا دفاعا عن وطنهم حتى حين كانوا يعلمون أنهم لا يمكن أن يربحوا المعركة كما كان حال يوسف العظمة في سورية ولكن كي لا يقال إن محتلا قد دخل بلادنا دون شرف المقاومة عن هذه البلاد. قارنوا بين الذين تواطأوا مثلا مع الحكم العنصري السابق في جنوب أفريقيا وتسببوا في قتل مئات بل وآلاف من الأفارقة المقاومين المدافعين عن كرامتهم وعن حريتهم وبين نيلسون مانديلا ورفاقه الذي ذاق عذابات السجن لسبعة وعشرين عاما ولكنه أصبح تجسيدا لضمير الأحرار المدافعين عن الحقوق والعدالة. والسؤال هو لماذا لا تتضمن مناهجنا التعليمية في المدارس ومنذ الصغر مثل هذه القصص وتعلم الأطفال أهمية الانتماء وقيمة الانتماء وثمن الهوان والضعف والتخاذل. والسؤال الآخر هو مع أننا نحن أصحاب الحق والكرامة والحضارة فهل استطعنا أن نجند عملاء من طرف أعدائنا كما جند هو عملاء من طرفنا؟ لماذا يهون على بعض العرب أوطانهم وتاريخهم ولغتهم ومستقبل أبنائهم؟ وعلينا ألا نبحث عن أجوبة مجتزأة أو فردية، بل علينا أن نبحث في العوامل التربوية والثقافية والدينية والسياسية التي أدت إلى مثل هذه الحال. خاصة وأني على يقين أن ما كشفت عنه السلطات اللبنانية من شبكات تجسس موجود بشكل أو بآخر في معظم بلداننا العربية، فالعدو يستهدف الجميع ودون استثناء. وحتى في إيران التي كشفت أيضا مؤخرا عن شبكات تجسس تحاول أن توهن عصبها من الداخل وتخضعها للضغوط الخارجية المعادية لمصالحها.

والسؤال الآخر هو لماذا لم يتعامل معظم الإعلام العربي مع هذا الموضوع بالجدية والخطورة التي يستحقانها وهل اكتشاف عميل يعمل لصالح الأعداء أمر عادي ولا يستحق الذكر أو التعليق أو التحليل والتمحيص. إنه لأمر خطير جدا أن تتعامل وسائل الإعلام العربية في معظمها مع هذا الخبر وكأنه لا يستحق وقفه جادة معه خاصة في ظل تحول المواجهة الحقيقية من الحدود إلى داخل هذه البلدان وبأشكال تستهدف الأمن والاستقرار الداخلي والازدهار الاقتصادي. ولذلك فإن الأسئلة يجب ألا تتركز فقط على من تم اغتياله هنا وتم استهدافه هناك بل الأسئلة الجوهرية يجب أن توجه إلى جميع المؤسسات العاملة في العالم العربي لنكتشف سبب إهمالها لما يجب أن يؤخذ بغاية الجدية وتوجهها أحيانا في عكس التيار دون أي مبررات ذاتية أو وطنية أو اقتصادية كانت أم سياسية.

إن هذا النوع من التجسس على المقاومين في لبنان قد يكون شكلا واحدا من أشكال التجسس ولاحظوا أن أحد المراكز، الذي قصف نتيجة هذا التجسس هو مركز فكري وبحثي في الجنوب يحتوي على مخطوطات وكتب قيمة ونادرة، كما أن أحد العملاء كان يثير الفتنة ويوقد نار الحقد على مخيم عين البارد. وهذه مؤشرات يجب أن نلتقطها لنكتشف أوجها أخرى من أوجه التواطؤ في العالم العربي قد تكون أشد خطورة وأذى على مستقبل هذه الأمة. وكمثال على التواطؤ الإعلامي على سبيل المثال فقد نشرت وزارة الخارجية الإسرائيلية أسماء من نشرت لهم مقالاتهم أثناء العدوان الأخير على غزة لأن هذه المقالات تعبر عن وجهة النظر الإسرائيلية أكثر من أي شيء يكتبه الصهاينة ومع ذلك ما زال هؤلاء الكتاب أنفسهم ينفثون سمومهم في فكر وعقل أجيالنا. لقد صرح منذ أيام وزير حرب العدو تصريحا عنصريا ضد شعب لبنان هدد فيه اللبنانيين من انتخاب مرشحي المقاومة، متوعدا إياهم بالويل والثبور من احتمال انتصارها. وأخذت أبحث عن هذا التصريح كي أذكره لأحد المسؤولين الأميركيين فلم أعثر عليه بسهولة إذ شطبته معظم الشاشات ولم تذكره غالبية الجرائد العربية بدلا من التوقف عنده والرد عليه وتحليله وشجب هذا التدخل على الأقل في الانتخابات اللبنانية، علما أن جميع وسائل الإعلام العربية اهتمت منذ اللحظة الأولى بإنفلونزا الخنازير وما زالت. كما أن قانونا عنصريا أشد خطورة يرغم العرب المسلمين والمسيحيين في إسرائيل بإلغاء أنفسهم والاعتراف بالدولة اليهودية مر على الأشرطة الإخبارية وكأنه خبر عن سعر برميل النفط. لمن تتجه أجيالنا لمعرفة قيم الوطنية؟ وممن تتعلم هذه القيم؟ وكيف تتحصن في وجه هذه الاستراتيجية الإسرائيلية المعادية للعرب والمعتمدة أولا وقبل كل شيء على إضعاف إرادتهم وإسقاط شبابهم في شباك الخيانة إذا كان الإعلام العربي في معظمه تتصدر اهتماماته الأولويات الغربية، ولا يملك المرجعية القومية الوطنية التي يصبح لديها أي تهديد يوجه من قبل عدو لشعب عربي أهم بكثير، بل له الأولوية على أخبار التاميل مثلا؟! هذه أسئلة كبرى في الإعلام والتربية والثقافية ولكنها جوهرية كي نقطع دابر التجسس والتواطؤ ونصبح كشعوب الغير نمتلك المناعة ضد إسقاط شبابنا وكوادرنا وقياديينا في شباك التجسس والخيانة والتواطؤ و«التعاون المشترك» مع العدو الذي يستخدمهم ضد قضايا أمتهم ومصائر شعوبهم.

www.bouthainashaaban.com