الانسحاب الأميركي من العراق.. موعد الأسئلة المؤجلة

TT

مع اقتراب تنفيذ استحقاقات الانسحاب الأميركي من العراق المتفق عليها رسميا والذي سيبدأ في حزيران المقبل، بدأت مؤشرات الوضع الأمني في العراق تبرز على أرض الواقع المعاش في هذا البلد لترسم من خلال الأوضاع الأخيرة التي شهدت انهيارات أمنية خطيرة أودت بحياة مئات العراقيين، ملامح مستقبل مشكوك في استقراره مع اختلاط الترقب الإقليمي الطامع والمترافق مع هشاشة الأوضاع العراقية التي رسمتها طائفية تغلغلت في مرافق الدولة العراقية وفي مقدمتها الأجهزة الأمنية.

أسابيع فقط تفصل العراقيين عن واقع جديد هو الانسحاب الأميركي من المدن، وبين متحمس لهذه الانتقالة النوعية وبين حذر منها، فإن القوى السياسية العراقية لا تزال مترددة في استيعاب ما سيبنى على هذه الانتقالة من نتائج والاستعداد السياسي والأمني والاستراتيجي للتعامل معها.

بعض القوى السياسية العراقية لا تزال أسيرة ديماغوجية اندثرت في التعامل مع الظواهر بكثير من الزعيق وقليل من التعقل والحسابات الموضوعية، فتراها تصرخ عاليا بتطرف لاستعجال خطوة الانسحاب دون أن تتوقف بالمقابل أمام ما يكفي من الخطط الضرورية لمواجهة إفرازات المتغير، وما يمكن أن يبنى على هذه الإفرازات.

وتركب قوى أخرى الموجة بطوباوية مشابهة ليس اقتناعا وتحسبا واستعدادا، بل لمجاراة ما يوصف بالرأي العام الضاغط خوفا من سحب البساط من تحت أقدامها وتحسبا لإمكانية تراجعها في الانتخابات النيابية المقبلة أو تراجعها الأسرع في إيقاعات وتشابكات المخاض السياسي الراهن.

وهناك تيار ثالث يتسم بقدر كافٍ من الموضوعية لا يخفي حماسته المحسوبة للانسحاب الأميركي من المدن وتكريس السيادة العراقية ميدانيا وعلى مستوى الشارع، لكن هذا التيار العقلاني صاحب النظرة الشمولية في التعامل مع طوارئ العملية السياسية يطرح العديد من التساؤلات التي لا تتوقف عندها ديماغوجية الأطراف الأخرى، ومن هذه التساؤلات:

- هل أعدت الدولة بإمكانياتها المتاحة وبقواها السياسية المشاركة من خلال المحاصصة ما يكفي من التصورات الميدانية لمواجهة الانسحاب الأميركي من المدن؟

- هل اختبرت بصدق إمكانيات القوات الأمنية العراقية (جيش وشرطة واستخبارات وسواها) للتعامل مع الموقف بدون دعم أميركي مباشر وواضح يحقق لها عنصر التفوق النوعي؟

- هل وضعت الدولة ما يكفي من الخطط القابلة للتنفيذ للتعامل مع قوى تنتظر بفارغ الصبر هذا الانسحاب للانقضاض على المنجزات الديمقراطية المتحققة بل والانقضاض على السلطة ذاتها؟

- هل حققت الدولة على مدى السنوات الماضية وحتى يومنا هذا قاسما مشتركا للقوى السياسية الرئيسة المتحاصصة وبما يجعل هذه القوى تقف في خندق واحد لمواجهة الحالات الطارئة؟ وهل من ضمانة لعدم تراجع بعض هذه القوى المحسوبة على العملية السياسية عن التزاماتها المعلنة والانحياز سرا أو علنا باتجاه القوى المضادة إذا ما عمت الفوضى؟

- هل انتهت الدولة من تأطير الرأي العام الذي سيتعرض لضغط شديد بعد الانسحاب لجرفه باتجاه سياسات القوى المضادة؟ ألم يزل مشروع المصالحة الوطنية غير واضح المعالم ناهيك عن التناقض الرئيس في وجهات النظر حوله؟

- هل أمنت الدولة حدا أدنى من حيادية التجاذب الإقليمي الخطير الذي ينتظر فرصة الانسحاب للعبث بقوة بالواقع السياسي العراقي؟ ألا يزال قطبا هذا التجاذب في حالة تدخل يومي بالشأن العراقي قبل الانسحاب فكيف سيغدو الأمر بعده؟

ولعل التطور الأكثر خطورة هو تهاون قادة سياسيين ومسؤولين أمنيين وأجهزة أمنية اخترقها الفساد الإداري والمالي والطائفي والحزبي حتى توسعت ولاءاتها ورغباتها بعيدا عن الأهداف الوطنية لتنحصر بتلك الولاءات الفئوية الضيقة التي تقدم مصالحها الضيقة على المصالح الوطنية العامة للوطن بكل مكوناته القومية والطائفية والدينية. وهنا يكمن الخطر الأكبر حين تنفرد هذه القوى بعد الانسحاب الأميركي من العراق بأوضاع البلاد الأمنية والسياسية لتسخرها لأهدافها المتضاربة الناتجة عن تنوع القوى والأحزاب التي تنتمي إليها وبشكل سيحول الساحة العراقية من حالة وئام واتفاق إلى تنافر وتطاحن سيعيد العراقيين إلى المربع الأول الذي شهد في أعوام 2005 و2006 و2007 حربا طائفة حزبية كادت أن تقود إلى إحراق العراق أو تقسيمه على الأقل.

إن هذا الوضع الذي سيخلقه الانسحاب الأميركي قبل إتمام السيطرة الوطنية على الأجهزة الأمنية والعسكرية، سيقود العراق إلى أوضاع شبيهة بتلك التي سقط في أتون حربها الأهلية لبنان خلال سبعينات القرن الماضي والتي دمرت بنياته التحتية وشرعت فرقة أبنائه طائفيا ودينيا وهي حرب ما زال اللبنانيون يعيشون آثارها الكارثية لحد الآن وغير قادرين على التخلص من تداعياتها برغم مرور حوالي 30 عاما على انتهائها.

ومن المؤكد أن أطرافا إقليمية مازالت متربصة بالعراق منذ التخلص من نظامه السابق عام 2003 وعملت على تغذية كل ما من شأنه أن يمنع تحقيق أمنه واستقراره ستتخذ من هذه الأوضاع ذريعة لتدخل سافر مؤذ في شؤون العراق من خلال عمليات استقطاب لهذا الفريق العراقي أو ذاك وبما يحقق لها أهدافها في هذا البلد، خاصة أن بعض هذه الأطراف ضالعة أصلا بالتدخل في الشؤون العراقية منذ سنوات عدة. ولإضفاء شرعية على تدخلها في الشؤون العراقية، فإن تلك الأطراف الإقليمية ستتخذ من موضوع الحفاظ على أمنها ودرء المخاطر عن شعوبها ذرائع لتدخلاتها تلك التي ستزيد الأوضاع العراقية تعقيدا واشتعالا.

ومن المؤكد أن هذه الأطراف ولكي تغطي على تدخلاتها هذه أو إضفاء نوع من المشروعية على عبثها بالأوضاع العراقية فإنها ستلجأ إلى استقطابات محلية تغطي على تحركاتها المؤذية للعراقيين وهو ما سيزج بأبناء البلد الواحد في أتون صراع الرغبات الخارجية لتكون أداتها المنفذة لتلك الصراعات وما يتخفى وراءها من أهداف خبيثة.

ويبدو أن هذا السيناريو قابل للتطبيق ومهيأ للتعامل مع هذه التدخلات الخارجية نظرا للتركيبة الطائفية التي بنيت عليها الدولة العراقية الجديدة والمنحازة لهذا البلد الإقليمي وذلك الآخر خاصة أن المنطقة تعيش أصلا تداعيات صراعات الرغبات الإقليمية حاليا بكل ما يمكن أن تقود له من شرور ستحيق بالعراق الذي سيكون مسرحا للصراع الإقليمي، الباحث كل طرف منه عن مطامع وغايات خاصة به بعيدا عن أهداف العراقيين وتطلعاتهم للأمن والاستقرار والإعمار والازدهار وبناء دولة القانون والمؤسسات.

إن أي انسحاب أميركي من العراق لا يأخذ طبيعة التداخلات المحلية والإقليمية هذه بالنسبة للعراق ولا يرتب الأوضاع العراقية بما يمكن العراقيين من الوقوف بوجه كل هذه المخاطر التي تشكلها هذه التداعيات، سيكون مدمرا وسيخلق أوضاعا مأساوية جديدة لبلد دخلت القوات الأميركية إليه قبل ست سنوات لإنقاذه من ظروف مشابهة، وهو أمر يجب أن يتصدى له القادة العراقيون والأميركيون، والتحرك نحوه بحذر وذكاء ينقذ البلاد من مخاطر لن تحرق إذا ما تحققت أصابع العراقيين وحدهم وإنما معهم كل الضالعين في الشأن العراقي.

ليس منا من لا يسعى لسيادة عراقية تامة وبأدق تفاصيلها، لكن بالمقابل ليس منا من لا يسعى إلى هذا الهدف النبيل بوعي وإدراك وبعد نظر فيقدم الإجابات الشافية على أسئلة أساسية مطروحة وإلا فكيف يصبح الانسحاب قاسما مشتركا بين قوى مضادة ترتكب المذابح يوميا بحق العراقيين، وقوى تطرح نفسها بتطرف ضمن مسار التغيير والعملية السياسية؟

* كاتب وسياسي عراقي