«جسارة» الجاسر

TT

مسؤولو الحقائب المالية والاقتصادية ليسوا بالشخصيات الأكثر شعبية نظرا لارتباطهم بكلمات ومصطلحات كئيبة كالتضخم والضرائب والغلاء والانهيارات المالية وغير ذلك، ولكن يبقى لدورهم وتصريحاتهم الوقع المهم والمؤثر على اقتصاديات الدول وحياة الشعوب فيها بشكل لا يمكن إغفاله. ولا تزال الذاكرة حية وبوضوح «أثر» تصريحات وقرارات وتشريعات فؤاد السنيورة في لبنان إبان توليه وزارة المالية، وكذلك دور عبد الكريم الكباريتي في الأردن إبان إدارته لشؤون المال في بلاده، ومحمد الرذاذ في مصر خلال وقت صعب كانت قراراته أشبه بأسواط التعذيب على مواطنيه، مما حوله لمصدر إلهام للنكات والطرائف. وفي السعودية لم يكن معهودا على مسؤولي حقيبة المالية فيها «الانفتاح» على الناس وعلى قطاع الأعمال وعلى وسائل الإعلام، وذلك بالتواصل والشفافية، ولذلك يفاجأ المتابع للشأن الاقتصادي عموما، والنقدي تحديدا، بالسعودية ما يقوم بعمله محافظ مؤسسة النقد محمد الجاسر في انطلاقة تسلمه للمنصب الجديد، وذلك عبر مشاركته في محافل دولية لافتة سواء بحسن اختيار المكان أو المناسبة أو المحور الذي تحدث فيه أو حتى التوقيت، ولكن الأهم هو ما قاله والكيفية التي قال بها.

غير خاف على أحد «الثقل» المالي للسعودية الذي بات مسألة معروفة يدعمها وضع سلعة النفط وريادة السعودية في إنتاجها وتصديرها، والأسعار القياسية التي وصلت إليها جعلت للسعودية مكانة وسط مجموعة العشرين كأهم الدول الاقتصادية في العالم، وبالتالي أصبح كل ما يصدر منها من تصريحات اقتصادية يؤخذ في عين الاعتبار بعد أن كان ذلك محصورا بشكل رئيسي في وزير البترول.

محمد الجاسر تحدث بشجاعة في مواضيع كانت تعتبر من الممنوعات الاقتصادية، فتناول وجهة نظره في أهمية استمرار الربط بين الريال والدولار الأميركي، وكذلك تحدث عن انفتاح إدارته في التعامل بشكل مغاير مع المصارف الإسلامية، ودافع عن سياسة مؤسسة النقد «المحافظة» وبررها، وكان لا يخاف أو يجامل بعض المسؤولين الغربيين في انتقاده لسياسات التصنيف الائتماني و«الفلتان» الذي أصاب مؤسسات الإقراض عندهم، ودافع بقوة عن سبب اختيار السعودية كمقر للبنك المركزي الخليجي المنتظر، وكذلك كان يحاول توضيح «أحجام» الإخفاقات في السداد لدى البنوك السعودية بعد أن دار الكثير من الكلام والجدل، وزادت الشكوك حول مدى الضرر الذي حصل، وخصوصا وسط الحديث عن إخفاقات هائلة في الكويت ودبي والبحرين.

هذا النوع من «القيادة المسؤولة» في منصب حساس ودقيق مطلوب للغاية في الظروف الاعتيادية، فما بالك في الظروف المضطربة التي أصابت أسواق المال العالمية كلها بلا استثناء فيما يشبه «إنفلونزا خنازير مالية». هذا النوع من الطرح وبهذا الأسلوب يبعث برسالة ثقة واطمئنان لأسواق هشة وحساسة هي بأمس الحاجة لذلك. موقع السعودية القيادي المالي لا يسمح إلا بأسلوب كهذا، والذي يؤمل أن يتبعه المزيد من التواصل والإجراءات المطمئنة حتى تتحول هذه اللغة إلى نهج إداري متكامل. البنوك المركزية ليست مجرد أجهزة حكومية أو كيانات إدارية ولكنها في بعض الأحيان النخاع الشوكي للمنظومة الاقتصادية نفسها.

[email protected]