مع الطفيلية

TT

كما ارتبطت ظواهر البخل والكرم والضيافة والشحاذة بواقع الفقر والجوع، نشأت عنهما ظاهرة الطفيلية. الحقيقة أن الكرم نفسه نوع من الطفيلية. يأتي شخص، ربما لا تعرفه ولم تسمع به، وينزل ضيفا عليك يتوقع منك إطعامه وسقيه. وعليه يمكننا أن نقول إن سلوك الطفيلية والتطفل يمتد إلى أيام الجاهلية وقبلها. بيد أن أشعب الطماع كان من أول من حولها إلى مهنة وطريقة للعيش، كما سبق أن أسلفنا وروينا.

بيد أن «الطفيلية» لم تدخل اللغة كمصطلح وفكرة إلا في العصر العباسي بعد أن تفاقم البون بين الأغنياء والفقراء وحمل المستضعفين والمسحوقين إلى كسب لقمة عيشهم من الشحاذة والصدقات والتطفل على الحفلات والولائم والمآتم. برز منهم بصورة خاصة المدعو طفيل بن دلال وهو من بني عبد الله بن غطفان ومن أهالي مدينة الكوفة. ونسبت إليه الظاهرة بعد أن لقب بطفيل العرائس لكثرة تطفله على حفلات العرس. وكانت العرب قبل ذلك تدعو من مثله بالوارش، كما يقول صاحب محيط المحيط.

اشتهر بوصيته إلى ابنه وهو على فراش الموت. قال له: «إذا دخلت عرسا فلا تلتفت تلفت المريب. وتخير المجالس. فإن كان العرس كثير الزحام فأمر وأنه. ولا تنظر في عيون أهل المرأة ولا في عيون أهل الرجل ليظن هؤلاء أنك من هؤلاء. فإن كان البواب غليظا وقاحا فابدأ به وأمره وإنهه من غير أن تعنف به. وعليك بين النصيحة والإدلال».

ولعمري، كثيرا ما لاحظت سلوك بعض الطفيليين المعاصرين فيما حضرته من حفلات، وكأني بهم قد قرأوا واتبعوا نصيحة هذا الرجل. كثيرا ما تطلبت مهنة الطفيلي شيئا من خفة الدم وظرافة الكلام التي تحببه إلى أهل الحفلة فيتسامحون معه ويستأنسون بحضوره. ومن ذلك كان طفيل هذا ينظم ويرتجل الشعر. وهكذا نطق بهذه الأبيات الظريفة لفائدة ابنه ومن سواه من الطفيليين:

لا تجزعن من الغريب

ولا من الرجل البعيد

وادخل كأنك طابخ

بيديك مغرفة الحديد

متدليا فوق الطعام

تدلي الباز الصيود

لتلف ما فوق الموائد

كلها لف الفهـود

واطرح حياءك إنما

وجه الطفيلي من حديد

لا تلتفت نحو البقول

لا ولا غرف الثريد

حتى إذا جاء الطعام

ضربت فيه كالشديد

وعليك بالفالوذجات

فإنها عين القصيد

هذا إذا حررتهم

ودهوتهم هل من مزيد

والعرس لا يخلو من

اللوزينج الرطب الفنيد

فإذا أتيت به محوت

محاسن الجام الجديد

وتنقلن على الموائد

فعل شيطان مريد

وإذا انتقلت عبثت

بالكعك المجفف والقديد

يا رب أنت رزقتني

هذا على رغم الحسود

واعلم إذا قبلــت

نعمت يا عبد الحميد

www.kishtainiat.blogspot.com