خطوة خطوة مع أوباما الفلسطيني

TT

أوروبا ترى في أوباما جون كيندي آخر. أميركا تري فيه أبراهام لنكولن الذي صالحها مع ذاتها، بعد حرب أهلية مريرة. ثم تقارنه بفرانكِلِنْ روزفلت، صاحب «العقد الجديد» الذي أخرجها من أزمتها الاقتصادية في الثلاثينات.

العرب لا يملكون ذاكرة سياسية. ذاكرتهم كذاكرة المرآة التي لا ترى سوى من يقف أمامها. إذا كان لي أن اذكرهم بأميركي واحد مر أمام مرآتهم فهو دوايت آيزنهاور. هذا الرئيس العسكري سحب إمبراطوريتين (فرنسا وبريطانيا) من السويس (1956) ومعهما مشروع إمبراطورية (إسرائيل). فعل آيزنهاور ذلك ليس هياما بالعرب، إنما لأن فرنسا وبريطانيا وإسرائيل لم تبلغه مسبقا بمؤامرة الهجوم على مصر. كان انتقام أميركا رهيبا. فقد دشنت حملة تصفية إرث الإمبراطوريتين الاستعماري في أرض العرب، وأحلت نفوذها محلهما.

كسبت أميركا النفوذ، وخسرت المصداقية والسمعة لدي العرب. فقد ارتكب رؤساؤها بعد آيزنهاور غلطة التاريخ، بتسمين إسرائيل لتصبح أقوى من كل العرب عسكريا. تنتصر عليهم في الحروب. تلتهم أرضهم قطعة، وتستوطن قطعة. وترفض التقاط غصن الزيتون، السلاح الوحيد الذي حملوه، ظنوا بسذاجة أنه كاف لاستعادة الأرض المفقودة.

كل رؤساء أميركا الذين زاروا المنطقة جاؤوها بلا استئذان.السائح أوباما يأتي غدا حاملا تأشيرة مرور فلسطينية، مصرية، سعودية، حصل عليها بتوبيخه لإسرائيل المحتلة والمستوطِنة. بصحبة أوباما تأتي أميركا عارية. يريد أن يشتري لها «سترة» عربية لعريها، ويستعيد لها سمعتها ومصداقيتها.

هل تنجح سياحة أوباما ومهمته؟ تنفس النظام العربي بارتياح. أوباما لن يغزو عراقا آخر. لن يسقط العروبة ليقيم نظاما مذهبيا. ثم يسلمه بغباء لإيران. بل أميركا أوباما ليست أميركا بوش التي تطالب العرب بديمقراطية الفوضى، وتسعى لتسليمهم إلى هيمنة إسرائيل في «شرق أوسطية» جديدة. كل همّ أوباما إصلاح العلاقة مع النظام العربي التي «خربطها» العشوائي بوش.

لكن هل يستطيع أوباما الاستغناء عن انحياز أميركا لإسرائيل، وسحب الاحتلال وتفكيك الاستيطان، وإقامة دولة فلسطينية؟ الشكوك العربية كبيرة، لا سيما أن أوباما لم يكشف، بعد، عن تفاصيل مبادرته. الأمر المقلق أن كبار إدارته، كهيلاري وبايدن والجنرال جونز، يصرحون: أوباما يريد كذا وكذا. وكأن أوباما وحده، وليست أميركا أو حتى إدارته تريد ما يريد!

وجه القلق العربي الآخر سببه رغبة أوباما في توريط العالمين العربي والإسلامي في التطبيع مع إسرائيل. يريد تطبيع 900 مليون مسلم و300 مليون عربي، قبل أن يتمكن من سحب ربع مليون، مجرد ربع مليون مستوطن من الضفة!

عسكر موريتانيا جمدوا علاقتها مع إسرائيل. أقول بألم وصراحة إن الخليج مطالب بالاقتداء بموريتانيا. مجلس التعاون الخليجي يعاني الآن من تعب النسيج. تراجع تنسيق مشيخات الأطراف مع السعودية الشقيقة الأكبر. مبادرة السلام السعودية تقول بصراحة: لا تطبيع عربيا مع إسرائيل، قبل قيام الدولة الفلسطينية. من البديهي أن هذا الموقف السعودي ينسحب أيضا على موقفها الإسلامي من إسرائيل.

لماذا الدولة أولا، والتطبيع أخيرا؟ لأن رفض التطبيع هو آخر ورقة ضغط ومساومة بيد العرب. إسرائيل المأزومة اقتصاديا تريد الوصول إلى الأسواق العربية، لا سيما الأسواق الخليجية، لأن الخليج دول غنية مستهلكة ومستوردة أساسا. قد لا يهم إسرائيل التطبيع السياسي. هي تطمع بفتح قنصليات وممثليات تجارية، تبدد الرفض العربي للسلع الإسرائيلية.

من القاهرة، ومن الرياض، سوف يخاطب باراك حسين أوباما العرب والمسلمين. اختيار المنبر دلالة سياسية مهمة. باراك لم يزر إسرائيل والعرب الآخرين. يريد أن يؤكد، أمام عرب إيران، ثقة أميركا بمكانتي النظامين السعودي والمصري، وبجدية التعامل معهما، سواء بالنسبة إلى قضيتي إيران وإسرائيل.

بيد أن أوباما سوف يسيء إلى هذين المنبرين، إذا أراد استخداماهما لكسب العالمين الإسلامي والعربي، بتقديم الذرائع لحربه المستعرة في أفغانستان وباكستان. أقول، باختصار، إن حرب أوباما على الإسلام الجهادي والتكفيري، لا بد أن تستند إلى ثقافته، لا إلى آلته العسكرية.

أوباما المثقف حان له أن يدرك أن حرب أميركا ضد «الإرهاب» يجب أن تنقلب حربا ثقافية وتربوية، إضافة منهج إنساني وتنوع ثقافي، إلى المنهج الديني في المدرسة الباكستانية والأفغانية. نعم، الحرب الثقافية طويلة، تستغرق أجيالا، لكن من العبث اختصارها في آلة القتل الجماعي السريعة.

تمويل النهج الثقافي والتربوي يفرض على أميركا المشاركة فيه، بدلا من الاتفاق العسكري والقمعي. كذلك لا بد من تحويل التبرعات السرية العربية. إلى هذا المنهج الجديد. ما يحدث اليوم في باكستان من انقضاض تنظيمات الجهاد التكفيري على نظام إسلام آباد درس وعبرة لكل نظام، أو جهاز، أو مؤسسة خاصة. لا يمكن الاطمئنان إلى حلف مؤقت أو دائم مع هذه التنظيمات.

أعود إلى محمود عباس، لأسأله هو وجنراله التفاوضي صائب عريقات ـ مصائب يا صائب ـ عن الحكمة في الإعلان عن استعدادهما للهرولة إلى مفاوضة حكومة المستوطنين، لماذا لا ينتظران مبادرة أوباما؟ لماذا لا يعلنان عن الأسس والقواعد التي سوف تحكم المفاوضات قبل بدئها؟ لماذا لا ينتظران احتمال قلب أميركا لحكومة نيتنياهو، وتشكيل ائتلاف حكومي جديد من كديما والعمال وجناح نيتنياهو في الليكود؟ التجربة المريرة أثبتت، منذ مدريد وأوسلو وكامب ديفيد، أنه كلما دخل الفلسطينيون في مفاوضات، تسارعت وتيرة استيطان الضفة وتهويد القدس.

أشعر بالحرج أمام شيخوخة عباس، كلما طالبت بقيادة فلسطينية شابة. نعم، نجح عباس مع وزيره سلام فياض في فرض أمن نسبي. لكن «القوة الثالثة» التي أقاماها، بمنأى عن فوضي فتح، وفي مواجهة تمرد حماس، لا تكفي بلا قاعدة شعبية تدعم الموقف التفاوضي، قاعدة يمكن أن يؤمّنها «رئيس» أسير كمروان البرغوثي.

تبقى إيران حصان المنطقة الأسود. بعض العرب يخشى من انحياز أوباما لإيران. بعضهم كبشار، بشر «حمائية» نشاط إيران النووي. بعضهم يعتبر التطبيع مع إسرائيل ضمانا وتأمينا لحماية أميركية للعرب من الانتشار الإيراني. المنطقة على موعد مع احتمالات وانتخابات. في الانتخاب يُكرَم البلد أو يُهان. هل النظام الثيوقراطي الإيراني يستبدل بواجهته المدنية (نجاد)؟

لعله يقدّم الموسوي واجهة أكثر تعقلا، واجهة مقبولة إقليميا ودوليا، لم تستطع أن تقدمها عمامة الإصلاحي الخجول محمد خاتمي.