دخانك أبيض أم أسود أيها العراق؟

TT

مع قرب بدء العد التنازلي لانسحاب القوات الأمريكية من العراق، هطلت الإشارات والتحركات من داخل العراق حول ماهية صورة العراق ومن هم حكامه بعد تقلص الظل الأمريكي الكبير.

في التفاصيل، حسب خطة أوباما التي تتفق مع اتفاق وضع القوات الأمريكي العراقي، فإن القوات الأمريكية سيتكامل انسحابها، بحلول 2011، ويبدأ التحول الكبير الذي يعني أن حجم التدخل في السياسة العراقية الداخلية انكمش، وسينكمش أكثر مع إدارة أوباما، على عكس إدارة بوش التي كانت موجودة في الصغير والكبير من شؤون العراق، وكان التحدي الكبير والسؤال المحير الذي طرح، ويطرح كثيرا، أثناء نقاش الانسحاب الأمريكي من العراق هو: هل العراق مؤهل الآن لحكم نفسه بشكل كامل؟ هل تعافى من جراحة خلع صدام حسين؟ هل الأمور ناضجة لقيام اجتماع عراقي سياسي صحي؟ ومناخ ملائم لحياة ديمقراطية وتنافس سياسي طبيعي ومسقوف بمظلة دستورية ضامنة؟

بعبارة أخرى: من يضمن أن الجسد العراقي المنهك، يستطيع السير حاليا بدون العكازة الأمريكية؟ ومن يحميه من صراعات الداخل، وحسابات دول الخارج المحيطة؟

من المبكر الحكم بتعافي العراق سياسيا وقدرته على إدارة أموره بمعزل عن الحضور الأمريكي، الذي وإن اتفق مع السلطة العراقية على «الانسحاب المسئول» الذي يعني بقاء نفوذ أمريكي معين في العراق وبقاء حوالي خمسين ألف جندي أمريكي، إضافة إلى بنود سرية في الاتفاق يتحدث عنها البعض، وهي لن تكون مفاجأة، فالأثمان التي دفعتها أمريكا بالعراق في الأرواح والأموال والسياسات لن تذهب سدى بطبيعة الحال لدى واشنطن، غير أن ما يهمنا في هذا السياق هو أن الإدارة العراقية ستحوز على الكثير من الصلاحيات ومغانم الحكم بمفردها، فهل نحن على ثقة من جاهزية الحكم في العراق على الإدارة القوية التي يفترض أنها تتجاوز مساوئ الحكم البعثي الصدامي؟

الإشارات الأولية ليست مشجعة، فقبل أيام أثار القيادي في المجلس الإسلامي الشيعي (حزب الحكيم) صدر الدين القبانجي عاصفة من النقد بعدما قال صراحة، وهو رجل الدين البارز وخطيب الجمعة في مدينة النجف، إن العراق به أغلبية من شيعة أهل البيت هي التي يجب أن تحكم العراق، وأنه آن الأوان لشيعة أهل البيت أن يحكموا، وعلى «الآخرين» أن يسلموا بذلك، مع وعده، بأن الأقليات الأخرى ستأخذ حقوقها.

وأضاف القبانجي خلال اجتماع ضم طلاب وأساتذة الحوزة العلمية في النجف أن: «شيعة أهل البيت في العراق تمثل الأكثرية، ومن حقنا أن يكون الحكم وتكون الحاكمية للشيعة، وأن الدفاع عن حق الأكثرية دفاع عن النظام الدستوري في العراق الجديد، ودفاع عن إرادة الناس».

هذا التصريح الذي ينبه على طبيعة الخيال الحاكم لقيادات الأحزاب الحاكمة في العراق، التي تشكل ما يسمى بالائتلاف الشيعي العراقي، يبعث على التشاؤم، صحيح ان المرجع الكبير السيستاني انتقد، على لسان ناطقه الإعلامي حامد الخفاف، تصريحات القبانجي، وقال إن الحكم هو للأغلبية السياسية وليست الأغلبية الطائفية، رغم أني ـ حقا ـ لم أشاهد كبير فرق بين المعنيين! إلا أن تصريحات السيد السيستاني أكثر تهذيبا واتزانا، ولكن ورغم نقد المرجعية لاندفاعات القيادات الحزبية الشيعية، يبقى أن الأمر أعظم من مجرد تغيير في العبارات والجمل.

نحن أمام مناخ طائفي بامتياز، يغذيه السنة والشيعة في العراق، على حد سواء، المختلف مع الشيعة هو أنهم في الحكم، ما يفرض حسا وطنيا جامعا، لكن المشاهد أن بعض أهل الحكم في بغداد يريدون الاستفادة من هذه اللحظة الاستثنائية بأكبر قدر من خلق الوقائع والحقائق على الأرض التي لا يمكن الرجوع عنها لاحقا، ولدى هذه الأحزاب الأصولية روايتها الخاصة عن سبب «برودة» الدول العربية المحيطة بالعراق، خصوصا السعودية ودول الخليج ومصر والأردن، في العلاقات مع حكومة الائتلاف في بغداد، وهو أن هذه الدول تعادي «شيعة أهل البيت» وليست راضية عن حكم هؤلاء للعراق، كما قال صراحة القبانجي، وعليه فلا يمكن أن تنجح مبادرات المالكي للتقارب مع الدول العربية ومع السعودية خصوصا إلا إذا تخلى هؤلاء عن مشايعة أهل البيت!

كلام عجيب وغريب طبعا، وخلط أعجب وأغرب بين منطق السياسة وهواجس الطائفة وتصورات الأصولية السياسية وهتافات التاريخ السحيق.

الحق أن كلام القبانجي وغيره مضلل وخادع، لأنهم حينما يتكلمون باسم الشيعة فإنما يتكلمون حقيقة باسم «الأحزاب الأصولية السياسية» وإلا فإن إياد علاوي، رئيس كتلة القائمة العراقية، رجل ينتمي إلى بيت شيعي شهير، وكذلك الأمر مع عشرات وعشرات آخرين من ساسة العراق ونخبته الوطنية، الذين لا يحفلون أبدا بهواجس ومنطلقات هذه الأحزاب المسيسة التي تتوسل الدين من أجل مصالح سياسية.

لو قال القبانجي وغيره: هم، أي العرب المرتابين من سلطة الائتلاف في بغداد، يختلفون مع طروحات أحزابنا الدينية، لكان أقرب للدقة من أن يقول إنهم لا يريدون الشيعة.

الخلاف هو في المنطلقات الإيديولوجية والأهداف السياسية، وليس في الانتماء الطبيعي «الجبري» للإنسان سواء إلى طائفة أو إقليم أو عرق أو دين.

الأحزاب الأصولية، شيعية كانت أم سنية أم مسيحية أم يهودية، هي محفز طبيعي لنمو المشاعر الدينية المتشددة لدى الطرف الآخر، وفي مثل هذه الأجواء من الطبيعي أن يغلب صوت التطرف السني في الضفة الثانية، ومن الطبيعي أيضا أن يغير حزب البعث من جلده ليصبح أكثر سنية، حتى يقارع المنطق الآخر في حرب غرائزية بشعة.

بعبارة أخرى أكثر وضوحا، إذا ما انسحبت القوات الأمريكية من العراق، على هذه الأرضية الرخوة من الطرح السياسي السائد، فإننا، فيما يبدو، أمام وصفة جاهزة لحرب أهلية شرسة في العراق، للأسف الشديد.

وها هو مسئول في حزب البعث العراقي البائد، جناح عزت الدوري، يكشف لوكالة الصحافة الفرنسية، عن استعدادات القيادات البعثية لملء الفراغ، الذي سينجم عن الانسحاب الأميركي من العراق، مبرهنا ذلك على عودة جماعات «المجاهدين»، في محاولة لترتيب أوضاعها مجددا. وأوضح المسئول البعثي أنه تم التكليف للتحرك باتجاه شيوخ العشائر وضباط الجيش والشرطة ورجال الأعمال للدعم أو الانخراط في حركة الانقضاض البعثية هذه.

ناهيك عن النشاط الدائم الذي لم يتوقف أصلا لمجاميع «القاعدة»، التي خمدت بنجاح نسبي مع صحوات الأنبار وغير الأنبار، لأسباب محض داخلية لدى السنة، لكن من يضمن عدم انبعاث الغرائز الطائفية السنية من جديد، على يد «القاعدة»، مستفيدة من ظروف المناخ الطائفي السائد في بغداد والوسط والجنوب.

بالعودة إلى القبانجي نجده في تصريحاته الكاشفة تلك يقول «نواجه اليوم خطرين في الواقع العراقي، أحدهما خطر عودة البعث، والآخر هو عودة العلمانية وعودة هذا النمط من التفكير، بعد أن أصبحت الأحزاب والكيانات الإسلامية هي الحاكمة». إذن هو دفاع عن مصلحة «الأحزاب» وليس «المواطن» العراقي، أولا، والشيعي، تاليا.

مشهد محزن وبائس، هذا صحيح، من أجل ذلك توقفت طويلا مع مقال الزميل الأستاذ جابر حبيب جابر، الأخير، في هذه الجريدة، وكان يتحدث بمرارة، وهو الأكاديمي العراقي المقيم في بغداد، عن كيفية الخروج من فخ التاريخ، وأننا أسرى لهذا التاريخ الدامي، ولم نفلح في جعله «ماضيا» بل ما زال «حاضرا» بيننا، وأنا أشاطره المرارة والشعور، ولكن أعتقد أن الأمل الأخير هو في وعي المواطن العراقي الذي هو سليل الحضارات العظيمة في بلاد الرافدين، وهو ابن بغداد المأمون، حيث وصلت الحضارة الإسلامية في عهده، عهد العلوم والترجمة والحكمة، إلى الغاية الأسمى.

هذا الإنسان العراقي المعجون بهذا الإرث العظيم، إن كان لا بد من استحضار التاريخ، هو الذي نأمل أن يقول كلمته الأخيرة ويلغي أنصار الطائفية والغرائزية، الأخفياء منهم والصرحاء!

وحتى حينه نترقب خلاص العراق، ونراقب مدخنته لنعرف نتيجة الانتظار إما نجاحا مع الدخان الأبيض أو غير ذلك مع الدخان الأسود، ونبقى «محكومين بالأمل».

[email protected]