ساعة التخرج

TT

يتخرج الضابط من المدرسة الحربية وقد تعلم دروسا عسكرية كثيرة، وأعد إعدادا جيدا لأن يكون ضابطا جيدا، برتبة ملازم، ثم يرتفع في الرتبة كلما ازداد خبرة وعلما. في المدرسة الحربية لا يتعلم تلميذها كيف يحكم في الناس. الحكم مدرسة أخرى، وإدارات أخرى وحتى أخلاق وعادات أخرى. لذلك قبل أن يذهب الضابط الفرنسي إلى التقاعد، يحيله الجيش إلى دورة تستمر ستة أشهر «يؤهل» خلالها للعودة إلى الحياة المدنية.

هناك موجة واسعة من الملازمين والنقباء العرب، حاولت أن تتعلم أصول الحكم بعد الاستيلاء على السلطة. وبدل أن تخوض تجاربها على حسابها خاضتها على حساب شعوبها ودولها. وفي الوقت الذي توصل جعفر النميري إلى معرفة حقائق بلده وحقائق العالم العربي وأكاذيب الأمم، كان الوقت قد حان للحاق بصف طويل من الضباط السابقين الذين توزعوا ما بين القاهرة ولندن وبيروت.

أظهر النميري حماسا طفوليا لكل شيء: للوحدات التي تعلن ظهرا وتسقط مساء. وللمد الإسلامي المتطرف. وسلم إسرائيل بحماس غير معلن أصحاب البشرة السوداء من بني إسرائيل. وذات يوم هرب منه ضابطان إلى لندن فطلب من صديقه معمر القذافي إنزال الطائرة المدنية البريطانية في طرابلس واعتقالهما وتسليمهما إليه. ثم أعدمهما. ولست أذكر إن كان ذلك قبل وصولهما أو بعد.

تصرف النميري بالقارة السودانية وكأنها حديقة ورثها عن أهله. بذخ وكأن الخرطوم تملك أموال اليابان. وتحولت العاصمة، بحجة محاربة الشيوعية، إلى ساحة مذابح تشبه مذابح جاكارتا، بالداعي نفسه. وكان كل يوم يتلقن درسا في التاريخ أو في الحكم أو في أكاذيب الأمم. ولم يكن يدرك ذلك. كان على قناعة بأن السودان حديقة ورثها من أبيه وأعمامه وسوف تدوم له إلى الأبد. ولم تكن لديه فكرة ولو بسيطة عن القانون. بل عامل القانون كما عامله جميع المتخرجين الجدد من المدرسة الحربية، باعتباره امتدادا للحديقة التي تعبت بها جزمهم.

عندما أدرك جعفر النميري معاني الحكم وقدسية الأوطان وعظمة الشعوب، كان قد أصبح منفيا في مبنى على طريق مطار القاهرة، يشير إليه السواقون للتدليل على متابعتهم للأحداث. وعلى هذا الطريق عاش منفيون كثيرون، أدركوا أصول الحكم بعد أن تركوا خلفهم اقتصادات مريضة وتخلفا وعشرات آلاف الضحايا والأرامل والسجناء. فات الأوان على الضباط وفاتت عقود على شعوبهم.