رسائل من وإلى باراك أوباما؟!

TT

الرسائل في السياسة والدبلوماسية الدولية، وحتى في الحرب، ليست كلها كلمات مكتوبة أو خطبا تقال، بل إن أكثرها إيماءات وإشارات وعلامات وتحركات، وأحيانا قليلة تأخذ شكل الهمسات التي تتناقلها أجهزة ومؤسسات لا تعرف أسرارها فضا إلا بعد عقود وسنوات، بل إن بعضها يذهب مع أصحابها إلى حيث يعلم علام الغيوب. وخلال الشهور القليلة الماضية لم تجر مياه كثيرة تحت جسور العالم بقدر ما جرت اتصالات وتحركات وزيارات واجتماعات على كل المستويات بين المسؤولين الأمريكيين وزملائهم وخصومهم في الشرق الأوسط الذي بات ممتدا بين الرباط وإسلام أباد، وفيها كانت الرسائل في الخطابات والخطب، حول الجديد في السياسة الأمريكية تحت إمرة إدارة جديدة جاءت بأعجوبة التاريخ إلى البيت الأبيض، حاملة أول أمريكي من أصول أفريقية إلى سدة السلطة في الدولة العظمى الوحيدة الباقية في العالم والتي ضعضعتها سياسات خاطئة طوال السنوات الثماني الماضية وحملتها كما حملت العالم ما لا يطيق ولا يقدر من أزمات اقتصادية وإستراتيجية.

وبعد هذه الشهور من التقييم والتقدير وحساب الخطوات سوف يكون المشهد الافتتاحي للسياسة الأمريكية إزاء الشرق الأوسط عندما يقف باراك أوباما في جامعة القاهرة لكي يلقي برسالته الموجهة إلى العالم الإسلامي في سابقة لم تحدث من قبل في تاريخ العلاقات الدولية. فقد جرت العادة أن يوجه القادة ـ وخاصة الرئيس الأمريكي ـ رسائلهم إلى العالم من خلال منصة الأمم المتحدة كل عام عند انعقاد الجمعية العامة في شهر سبتمبر من كل عام، أما وأن يوجه رئيس أمريكي رسالة إلى عالم بعينه هو العالم الإسلامي، ومن عاصمة عربية هي القاهرة، فإن الأمر بالتأكيد جديد في الشكل والمضمون. وربما لن يساعدنا على فهم ما سوف يحدث يوم الخميس الرابع من يونيو 2009 إلا تلك المشابهة مع تلك الزيارة الشجاعة التي قام بها الرئيس السادات للقدس في نوفمبر 1977 حينما وضع العرب والإسرائيليين على مشارف مرحلة جديدة بات فيها الحديث عن السلام مساويا لأول مرة الحديث عن الحرب. وكان ذلك انقلابا في العلاقات الإقليمية لا زالت تتعاطى معه حتى اليوم بأشكال شتى رفضا وقبولا، ومدحا وقدحا، ولكن أحدا لن يختلف على أن الشرق الأوسط بعد خطاب الكنيست لم يعد كما كان قبلها. وحمل هذا الخطاب أهميته من حيث الشكل عندما ذهب رئيس أكبر دولة عربية إلى أرض الأعداء لكي يدعو إلى فتح صفحة جديدة من العلاقات والتفاعلات، ومن حيث المضمون عندما قدم كامل المطالب العربية المشروعة كاملة غير منقوصة.

ما جرى بعد ذلك يمكن الخلاف حوله، ولكن أحدا لن يختلف على أن بصيصا من الضوء جاء وترتب عليه استرداد أرض عربية كان ممكنا أن تظل على حالها محتلة. خطاب أوباما في جامعة القاهرة سوف يكون أيضا له شكل ومضمون؛ والشكل جاء من خلفية صراع دار طوال السنوات الثماني الماضية، وبالتحديد في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 والتي تجسد فيها ما عرف بصراع الحضارات، حيث وجد العالم الإسلامي نفسه دينا وسكانا ودولا داخلة في دائرة وحشية من الاتهام بالمسؤولية عن حادث وحشي قامت به جماعة من الإرهابيين. هنا فإن زيارة أوباما وخطابه في جامعة القاهرة سوف يقطع مسيرة من الصراع والحرب والمواجهة أخذت أشكالا متعددة وعلى مسارح متنوعة ربما كان أبرزها ما جرى في العراق وأفغانستان، ولكنها لم تترك أرضا إسلامية إلا وزارتها أو اقتحمتها بأشكال شتى. ومع فتح صفحة جديدة في العلاقات الغربية الإسلامية سوف يكون المضمون، لأن موضوع العلاقات الدولية ليس الرموز وحدها وإنما كيف يكون الحال بعد ظهور العلامة والإشارة، وعلى الأرض وليس في السماء السابعة، حيث النجوم والأحلام في اليقظة والمنام.

ولذلك فإن خطاب أوباما يمكن التنبؤ به، حيث يكون له جانب المبادئ والمثل التي تعيد العلاقات الإسلامية ـ الغربية إلى حيث يجب أن تكون قبل أن تشوهها جماعات الإرهاب والمحافظين الجدد على أرضية المصير المشترك للإنسانية، والتراث الحضاري الذي تراكمت فيها حضارات الدنيا كلها تعطي وتأخذ حتى نصل إلى حضارة العالم المعاصرة. وفق هذه الرؤية فإننا لسنا إزاء عالمين أو فسطاطين واحد للشر والآخر للخير، وإنما نحن ـ البشر ـ شركاء في مواجهة واحدة ضد كل من يريدون تحويل عالمنا إلى محارق للأديان والحضارات والثقافات، سواء كان ذلك بطريقة مادية أو معنوية. ولكن لأن المبادئ وحدها لا تقنع أحدا، وهناك دائما في كل الثقافات من يعتقدون أن حديث المبادئ هو من نوع الحديث المعسول الذي ينتهي تأثيره مع طلوع الصباح، فإن خطاب أوباما سيكون له جانبه الآخر العملي والذي يخص القضايا الدامية التي تراكمت خلال السنوات الماضية وحتى تلك العقود التي سبقتها، ومن أول الصراع العربي ـ الإسرائيلي وحتى احتلال العراق، والموقف الراهن في باكستان وإندونيسيا.

وبدون الدخول في كثير من التفاصيل، أو سابق معرفة بخطاب أوباما، فإن المشاورات التي سبقته، والتصريحات التي مهدت له، والزيارات التي قادت إليه من أول زيارة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني إلى واشنطن وحتى زيارة أوباما للرياض واللقاء مع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وهو في طريقه إلى القاهرة، كلها تشير إلى هذا الاتجاه: صفحة جديدة في العلاقات الغربية ـ الإسلامية، وبرنامج عمل للتعامل مع المشكلات القائمة.

ولكن إذا كان ممكنا استشفاف ما سوف يأتي من واشنطن، فإنه ليس واضحا بعد ما هي الرسالة المقابلة التي يريد العالم الإسلامي إرسالها إلى الولايات المتحدة ومن بعدها بقية أركان العالم الغربي. وفيما عدا الرغبة في حل عادل للقضية الفلسطينية التي يتفق عليها كل المسلمين في العالم، فإن ما صدر عن العالم الإسلامي يشير إلى رسائل متعددة، فالمسلمون في الهند وإندونيسيا وماليزيا والذين عقدوا العزم منذ فترة على اللحاق بالعالم اقتصاديا وتكنولوجيا قدموا إيماءات مشجعة، وكانوا قد أرسلوا رسائلهم بتواؤم الحضارات منذ وقت طويل. وفي المقابل فإن المسلمين في تورا بورا حيث طالبان والقاعدة، وأمثالهم من الأصوليين والجماعات الراديكالية وجدت في ظاهرة أوباما خطرا على الدين والملة؛ أما إيران فقد أرسلت رسالتها من خلال اختبار صاروخ سجيل الجديد، وتأكيد القيادات الإيرانية أنهم ليسوا الآن في مزاج الحوار والتبادل، وإنما هم على استعداد للمشاركة في إدارة العالم.

ولكن ما يريد أوباما سماعه حقا فهو رسالة الدول العربية والإسلامية المعتدلة والتي تعرف كثيرا كيف تفصح عما تريده من أمريكا وحلفائها وفي مقدمتها السعي الحثيث لحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والخروج الآمن من العراق، والعمل على تحقيق الاستقرار في منطقة أعيتها الثورات والانقلابات وتركتها ما بين دول فاشلة وأخرى على الطريق إليها. ولكن أوباما وصحبه من دول العالم، وهم يتفهمون ما تريده الدول المعتدلة، كثيرا ما يتساءلون ما هو المشروع العربي ـ الإسلامي لإعادة بناء المنطقة من جديد سواء على الصعيد الإقليمي، حيث الصراعات والحروب الأهلية والإقليمية، أو على صعيد الدول التي تمزقت أو قاربت على التمزق. وربما كانت المبادرة العربية على بساطتها تحمل في ثناياها نوعا من رسالة الدول العربية المعتدلة إلى العالم في وقت مبكر، ولكن الرسالة التي أطلقتها المملكة العربية السعودية وتبنتها بعد ذلك الدول العربية لا بد لها من خطة وإستراتيجية. فكما هو الحال مع رسالة أوباما التي لن يقتنع أحد بها دون تماثل الشكل والمضمون، فإن الشكل والمبادئ في المبادرة العربية على أهميتهما الرمزية لا يشفعان دون الترجمة إلى عمل وخطوات وتحركات.

إن زيارة أوباما إلى السعودية ومصر، ومن بعدهما رسالته إلى العالم الإسلامي، ربما تكون هي البداية الحقيقية لإدارة باراك أوباما، فبدون نجاحه في دبلوماسية الرسائل المتبادلة هذه، فإن تصوراته عن علاقات دولية جديدة بين الشعوب والحضارات سوف تذهب إلى غير رجعة. وساعتها لن نفاجأ إذا ما عاد المحافظون الجدد مرة أخرى، وتغير البندول الأمريكي حتى قبل أن يستقر!