الأردن وحكاية الوطن البديل.. يا جبل ما يهزك ريح

TT

لو لم تُثَر كل هذه الضجة التي أثيرت فإنه ليس ضروريا التعليق حتى مجرد التعليق على التصريحات التي أطلقها عضو كنيست إسرائيلي ينتمي إلى حزب وزير الخارجية الإسرائيلية أفيغدور ليبرمان والتي تحدث فيها عن أن الأردن هو وطن الشعب الفلسطيني الذي يجب أن تقوم فيه دولتهم فهذا الكلام غير جديد وكان قد قاله رئيس الوزراء السابق آرييل شارون مرات عدة لكنه ما لبث أن تراجع عما قاله بعد أن ارتطم رأسه بجدار الحقائق وبعد أن أدرك أن سباحته ضد التيار ستكون بلا جدوى وبلا فائدة.

وحقيقة ورغم كل الضجة التي أثيرت حول هذه التصريحات الصبيانية، التي يعرف الإسرائيليون قبل غيرهم وأكثر من غيرهم أنها ألاعيب سياسية محدودة الأفق وأن ضررها على إسرائيل سيكون أكثر من ضررها على الأردن وعلى الشعب الفلسطيني، فإن الأردنيين، شعبيا، قد قابلوها بعدم اكتراث مع أن الحكومة الأردنية بادرت إلى استدعاء السفير الإسرائيلي في عمان الذي اعتبر أن ما قاله العضو في الكنيست الإسرائيلي لا يلزم الإسرائيليين بأي شيء ولا يمثل الدولة الإسرائيلية، وأنه مجرد فقاعات سببها حب الظهور واستجداء دعم التيارات المتطرفة الأكثر تشددا ويمينية.

ربما أقلقت إثارة مسألة الوطن البديل من قِبل الإسرائيليين وغيرهم الأردنيين في فترات ومراحل سابقة، حيث لم تكن القضية الفلسطينية متبلورة على هذا النحو، وحيث لم يكن هناك مؤتمر مدريد ولا معاهدة السلام الأردنية ـ الإسرائيلية وحيث لم تكن السلطة الوطنية قد قامت بعد ولم يصبح العالم كله وفي مقدمته الولايات المتحدة يصر كل هذا الإصرار على حل الدولتين وقيام دولة مستقلة للفلسطينيين على الأراضي التي احتُلت في يونيو (حزيران) عام 1967 إلى جانب الدولة الإسرائيلية. أما الآن وبعد كل هذه التطورات التي استجدت منذ مؤتمر مدريد الشهير وحتى الآن وفي ضوء تمسك الشعب الفلسطيني بحقه التاريخي ورفض أي وطن بديل لوطنه لا في الأردن ولا في غير الأردن وفي ضوء تطابق المواقف الأردنية والفلسطينية على الصعيدين الشعبي والرسمي حول هذه المسألة فإن الأردنيين لم تُخِفهم ولم تقلقهم هذه التصريحات الآنفة الذكر التي كان أطلقها عضو الكنيست الإسرائيلي أرييه الداد وقال فيها: «أدعو الفلسطينيين للبحث عن وطن بديل وأقترح أن يكون الأردن هو هذا الوطن البديل عن فلسطين».

وبالطبع فإن هذا الذي قاله الداد قد دفع بعض الكتل النيابية في البرلمان الأردني إلى المطالبة بطرد السفير الإسرائيلي يعقوب روزين من عمان ودفع بعض الأحزاب المعارضة إلى دعوة الحكومة الأردنية إلى إعادة النظر بمعاهدة وادي عربة التي كانت قد أُبرمت بين الأردن وإسرائيل برعاية أميركية وتأييد دولي في عام 1994 أي بعد نحو عام من اتفاقيات أوسلو التي أبرمت بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

لقد كان هناك اهتمام أردني بتصريحات عضو الكنيست الإسرائيلي أرييه الداد هذه لكن دون أي قلق ودون أي خوف، فالأردن دولة راسخة ومستقرة ورقم أساسي في معادلة هذه المنطقة وفي المعادلة الدولية، ثم إن الزمن الذي كانت تُشطب فيه دول من الخرائط السياسية قد ولّى ولن يعود وهذا يعرفه الإسرائيليون تمام المعرفة وهم يعرفون أيضا أن مثل هذه التصريحات تشكل خطرا مستقبليا عليهم وعلى دولتهم أكثر مما تشكل خطرا على المملكة الأردنية الهاشمية وعلى أي دولة عربية أخرى. وهنا فإنه لا بد من القول إنه إن لم يكن أرييه الداد مصابا بلوثة عقلية هي التي دفعته لإطلاق هذه التصريحات «الهيستيرية» فإن المؤكد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هو الذي دفعه لقول هذا الذي قاله وذلك من قبيل المشاغبة على الدور النشط الذي لعبه الأردن في الفترة الأخيرة إنْ لجهة «تسويق» مبادرة السلام العربية والسعي لإقناع العالم بها وإنْ لجهة التأكيد المستمر والمتواصل على أنه لا استقرار في هذه المنطقة دون قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب الدولة الإسرائيلية. لقد شعرت هذه الحكومة الإسرائيلية اليمينية بمدى ما تشكله المصداقية الأردنية لدى الأميركيين والأوروبيين والعالم كله من خطر عليها وما يشكله الاعتدال الأردني من نقيض لسياساتها ومواقفها العدمية والمتطرفة فلجأت إلى هذا الأسلوب الصبياني ودفعت أحد تلامذة أفيغدور ليبرمان إلى قول هذا الذي قاله من قبيل المشاغبة والمناكفة والتخويف الذي واجهه الأردنيون ومعهم أشقائهم الفلسطينيين بترديد ذلك القول الشهير: يا جبل ما يهزك ريح. إن الأردنيين واثقون من أنفسهم وواثقون من متانة دولتهم وصمود نظامهم وواثقون من أن الشعب الفلسطيني كله مَن منه في المهاجر ومَن منه في فلسطين لا يمكن أن يقبل بأي وطن بديل لوطنه وأنه مصرّ ومعه العرب كلهم والعالم بأسره على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة المنشودة على الأراضي التي احتُلت في عام 1967 إلى جانب الدولة الإسرائيلية. إنه من غير الممكن، وهذا يعرفه الأردنيون والإسرائيليون والفلسطينيون، أن يقبل العالم بالإخلال بالمعادلة الإقليمية القائمة وأن يستمع مجرد الاستماع لهذيان اليمين الإسرائيلي ويتصور ولو جدلا كيف سيصبح الوضع في الشرق الأوسط إذا جرى التلاعب بخريطته السياسية وإذا تحول الأردن الذي يشكل نقطة استراتيجية في غاية الأهمية في هذه المنطقة كلها إلى بؤرة للتوتر وإلى «تورا بورا» ثانية وإلى غزة أخرى وإلى مجال حيوي لإيران التي تصل تطلعاتها الإمبراطورية حتى إلى المغرب العربي على المحيط الأطلسي. لا يمكن أن يتصور العرب وبخاصة عرب الخليج أن يصحوا ذات صباح وإذا ببؤرة توتر جديدة ولكن هائلة تنفجر بالقرب منهم وعلى حدودهم ولا يمكن أن يقبل هؤلاء بأن يستدرج «الوطن البديل» إسرائيل لتصبح مطلة مباشرة على بحور من النفط في الجزيرة العربية وحقيقة أن هذا ما يتمناه بعض الإسرائيليين ليس من أجل التخلص من الفلسطينيين ومن استحقاق وطنهم فقط بل من أجل أن تصبح الآبار النفطية تحت رحمة دولتهم.

ربما أن بعض العرب لم ينتبهوا إلى أهمية الجغرافيا التي تقوم فوقها المملكة الأردنية الهاشمية ولم يخطر في بالهم أن الأردن بحدوده الحالية كان ولا يزال النقطة التي تتقاطع عندها الطرق بين مصر وبلاد الشام وبين الهلال الخصيب والجزيرة العربية وبين العراق وشواطئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية وأنه كان بداية الفتوحات الإسلامية وطريق نبوخذ نصَّر إلى فلسطين والقدس وطريق صلاح الدين الأيوبي من دمشق إلى القاهرة وكان الجبهة الأمامية لتصادم الإمبراطورية الفارسية مع الإمبراطورية الرومانية.

لا بد من معرفة، بينما أن فكرة الوطن البديل التي هي بالأساس فكرة صهيونية ربما تستهوي بعض المفلسين، أنه لو لم تقم المملكة الأردنية الهاشمية في هذا الموقع الاستراتيجي الهامّ لكانت إسرائيل تطل الآن مباشرة على آبار النفط في العراق وفي الخليج ولكانت خطوط الاتصال الأرضية بين الجزيرة العربية وسوريا تحت الرحمة الإسرائيلية.. إن هذه المسألة يجب أخذها بعين الاعتبار الآن حيث يشكل الأردن منطقة عازلة وجدارا واقيا وخندقا متقدما، وحيث إن اختلّت معادلة الجغرافيا السياسية القائمة فإن آبار النفط ستصبح وجها لوجه أمام الأطماع الإسرائيلية.

إن الأردن لا يخشى هذه التهديدات وإن الأردنيين لا يخافونها، فالاعتماد أولا وأخيرا هو على أن الدولة الأردنية متينة وقوية وراسخة وأن شعبها واحد وموحد خلف قيادته وأن الشعب الفلسطيني لا يمكن وتحت أقسى الظروف وأصعبها أن يقبل بوطن غير وطنه وبدولة غير الدولة المستقلة المنشودة، لكن ومع ذلك فإنه لا بد من التحذير من مغبة أي تلاعب بمعادلة الجغرافيا السياسية في هذه المنطقة وإنه لا بد من التأكيد على أن الوطن البديل يعني منطقة مزعزعة وغير مستقرة و«تورا بورا» ثانية، ويعني اقتراب الأطماع الإسرائيلية من آبار النفط في العراق والجزيرة العربية.