منطقة الشرق الأوسط.. عودة إلى المربع الأول

TT

تختلف المقاربات حول إيجاد حل لقضية العصر، القضية الفلسطينية. فالحل المقترح اليوم دولي وإقليمي، هو ما يسمى حل «الدولتين». لكن هذا الحل، أي ما يضم قطاع غزة والضفة الغربية، كان منذ النكبة العام 1948 وحتى النكسة في حرب الأيام الستة، قرارا في أيدي العرب، فلماذا لم يعلنوا تلك الدولة؟ منذ انغماس الولايات المتحدة في قضية العرب الأولى، لم تحصد أميركا سوى «وجع الراس». حتى إنها كانت تتساءل عبر مفكريها عن أهمية إسرائيل الاستراتيجية لها. فهي لم تشارك مع أميركا في أية حرب إقليمية، ابتداء من حرب الخليج الأولى 1991 وحتى حرب إطاحة الرئيس صدام حسين عام 2003. لكنه دون شك، وحسب بعض الاستراتيجيين، تعتبر إسرائيل شيكا جاهزا للصرف الفوري. بكلام آخر، هي حاجة ملحة لأميركا كي تنظم موازين القوى الإقليمية.

مع المحافظين الجُدد، كانت طريق القدس تمر ببغداد. أسقط النظام في بغداد، وأصبحت القضية الفلسطينية أكثر تعقيدا، خاصة بعد التعثر الأميركي في العراق.

أتت إدارة جديدة إلى البيت الأبيض. فكان من الطبيعي أن تسعى هذه الإدارة إلى مقاربة جديدة، وبسرعة، فقط لأن تركة الرئيس بوش الابن كانت ثقيلة على أميركا. فماذا عن مقاربة الرئيس أوباما؟

يبدو أن أوباما يعتمد على وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في صورة الماكرو. هي التي تزور، تصرح وتحاول رسم الخطوط العريضة لسياسة أوباما الكبرى. عين أوباما في المستوى الأدنى مباشرة بعد كلينتون اختصاصيين مخضرمين للتعامل اليومي والمستمر مع قضية ما مهمة للمصالح الأميركية. كان تعيين جورج ميتشل لقضية العرب، ودينيس روس مستشارا لكلينتون حول إيران، وريتشارد هولبروك لكل من باكستان وأفغانستان.

بعد تركيب الفريق الخاص بالمنطقة، بدأ أوباما يستطلع الأوضاع عبر استقبال قادتها.

ولا شك في أن الرئيس الأميركي يريد تحسين صورة العم سام في كل من العالمين العربي والإسلامي. وإلا فما معنى اختياره أنقرة لتوجيه رسالة إلى المسلمين، وما معنى اختياره القاهرة في 4 حزيران (يونيو) لتوجيه رسالة إلى العرب؟ كذلك، مد أوباما يده إلى إيران، في انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية التي قد تكون مؤشرا لسياسة إيران المقبلة مع الرئيس أحمدي نجاد أو مع غيره.

ولعله من المفيد رسم الصورة المفترضة لمقاربة أوباما للشرق الأوسط:

* يعتبر أوباما أن أي تقدم على المسار الفلسطيني سيساعد حتما في التقدم على المسار الإيراني

* يريد حلا تحت شعار الدولتين

* يريد وقف الاستيطان فورا

* يرفع شعار نزع السلاح النووي – كل السلاح ومن كل الدول ـ وضرورة توقيع إسرائيل اتفاق الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، وهذا أمر يضر بإسرائيل لأنها تعتمد استراتيجية الغموض النووي منذ أواخر الخمسينات، الغموض الذي يقوي بُعدها الرادع للعرب وغيرهم.

وفي المقابل يعتبر نتنياهو أن الحل يجب أن يبدأ من مستوى المايكرو للفلسطينيين عبر تحسين الوضع الاقتصادي، تدريب القوى العسكرية للحفاظ على الأمن، اعتراف حماس بشرعية دولة إسرائيل من دون ذكر مشروع الدولتين. ويعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي أن التقدم على المسار الإيراني سيؤدي حتما إلى تقدم على المسار الفلسطيني، علما بأنه يقلق من التقارب الأميركي – الإيراني، وحتى من التقارب الأميركي العربي. فما تربحه إيران، والعرب، تخسره إسرائيل حتما من رصيد علاقتها بأميركا.

كما يقلق من نوعية السلوك الأميركي تجاه إيران، إذا فشلت الدبلوماسية. فهل سيكون هناك المزيد من العقوبات؟ وماذا سيكون عليه موقف كل من روسيا والصين في مجلس الأمن؟ أو هل ستكون هناك عملية عسكرية ضد إيران؟ يستبعد نتنياهو العملية العسكرية الأميركية، وهذا ما يقلقه.

وسط هذه المعمعة عاد الفلسطينيون إلى المربع الأول، كما عشية حرب النكبة، لكن مع واقع عربي أسوأ ومختلف، وواقع فلسطيني فريد من نوعه. فالدولة الموعودة بين غزة والضفة، حتى ولو وافق عليها نتنياهو، غير قابلة للتحقيق بسبب العقد الفلسطينية. وهذا ما عبر عنه جون بولتون، حين اقترح حلا بثلاث دول: غزة، الضفة، وإسرائيل. فقد يمكن القول، إنه لا يوجد رابط بين من في غزة ومن في الضفة، سوى أنهم من أصل واحد. فالأيديولوجيات مختلفة. كما هناك اختلاف جذري في الأهداف السياسية العليا للشعب الفلسطيني. وأخيرا هناك اصطفاف حاد للقوى السياسية الفلسطينية مع القوى الإقليمية المتصارعة. وإلا فما معنى تأليف حكومة فلسطينية دون حماس والكثير من القوى الأخرى؟ إذا أصر أوباما على حل الدولتين وعلى وقف الاستيطان، فسوف تسوء العلاقة بين أميركا وإسرائيل. لكن لا يمكن للدولة العبرية أن تخاصم العم سام، خاصة في ظل التحولات الكبرى على صعيد النظام العالمي. إذ لا بد للعلاقة من أن ترسو في منطقة وسطية، عادة ما تكون خطرة على القوى الضعيفة في المنطقة. ولبناء هذه المنطقة الوسطية، قد يعمد نتنياهو إلى الالتفاف شيئا فشيئا على مشروع أوباما، وذلك عبر إيجاد واقع جديد يبدل دينامية واندفاعة الحل المطروح من الرئيس الأميركي. فهو قد يذهب إلى مزيد من الانفتاح على سورية لكسب الوقت، فقط لأنه عاجز عن مجابهة إيران عسكريا دون موافقة أميركية، ومساعدة حتى. وهذا أمر علينا مراقبته في المراحل المقبلة، وأن مؤشر هذا السلوك هو كيفية تعامل نتنياهو مع تركيا الوسيط النزيه.

في هذا الإطار، قد تجد سورية نفسها مستفيدة من الواقع، خاصة أن علاقتها بأميركا قد عادت إلى التوتر النوعي. ألم يستقبل الرئيس السوري الرئيس الإيراني في الوقت الذي يجول فيه المسؤولون الأميركيون على المنطقة لتطمين العرب؟ وألم يطلب الرئيس الفرنسي، عبر بيان دبلوماسي نشر في الصحف، ضرورة عودة الانفتاح الغربي على سورية؟

في هذا الإطار، قد يتجسد التفاهم غير المباشر الإسرائيلي – السوري على الساحة الأضعف، ألا وهي لبنان. فيعود لبنان بذلك إلى مشروع كيسنغر معدل بسبب الظروف الجديدة. ألم تمانع إسرائيل الانسحاب السوري من لبنان عقب اغتيال الرئيس الحريري؟

إذا تعذر التقارب السوري – الإسرائيلي فقد تعمد إسرائيل إلى تحمية الساحة اللبنانية ليعود تقاسم لبنان بين الاثنتين من جديد، لكن على نار حامية. لذلك تأخذ الانتخابات النيابية المقبلة في لبنان هذه الأهمية القصوى، لكل الأفرقاء المحليين والإقليميين والدوليين. وإلا فما معنى زيارة نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن للبنان قبيل الانتخابات النيابية؟

*عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث أكاديمي