انتخابات المفزوعين

TT

واحد من أول الشعارات الانتخابية التي شاهدها اللبنانيون في الشارع، شعار أطلقه الشيخ داعي الإسلام الشهال، منذ أشهر يقول فيه: «طائفة قوية.. بلد آمن». ويعني الشيخ بطبيعة الحال الطائفة السنية التي ينتمي إليها، معتبراً أن منعتها وصلابتها هي التي تمنح الوطن سكينته، وربما رخاءه وازدهاره. ومشكلة الشيخ هي مع 17 طائفة أخرى كل منها تطمح لأن تكون فولاذية البنية ديناصورية الحجم، من دون أن تنتبه إلى أن مساحة الوطن الصغير لا تحتمل هذا القدر من الانتفاخ. وإذا كانت الطائفة الشيعية قد أفلحت نسبياً، وغيرها لا يزال يسعى، فإن التصويت في معظمه يوم الأحد المقبل، في صناديق الاقتراع سيكون ترجمة لهذه الطموحات الطوائفية المرضية التي تتلبس المجموعات اللبنانية المتناحرة. والطائفة السنية التي عرفت تاريخيا باعتدالها وعروبتها وبقائها طوال الحرب الأهلية عنصر توازن سلميا هادئا، لحقت بالركب بعد أن أصابتها الفوبيا ذاتها. ومن راقب أوضاع السنّة في لبنان منذ شهرين إلى اليوم، كان بمقدوره أن يلحظ بأن لوائح «تيار المستقبل» مع 14 آذار، لم تحظ بإجماع كاسح لدى الناخبين كما كانت الحال عليه عام 2005. وكان من السهل أن تسمع الناخبين يتحدثون عن رغبة في تشطيب اللوائح، وتغيير في بعض الأسماء، تبعاً للمذاق الشخصي لكل ناخب، مع نقد من هنا وهناك لممارسات رجال التيار في المناطق، وسوء تصرفاتهم.

مع خروج الضباط الأربعة من السجن، نهاية شهر أبريل (نيسان) كان يفترض، منطقياً وعلمياً، أن ترجح الكفة، ولو قليلاً، لصالح 8 آذار في المناطق السنية، بعد أن تبين أن الأمنيين المحسوبين على المعارضة، لا تهمة تثبت تورطهم في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهذا ما تخوف منه فريق 14 آذار. لكن ما حدث هو العكس، وللشعب اللبناني سيكولوجيا خاصة. فاستعراض القوة الذي مارسه حزب الله في الشوارع وعلى الشاشات احتفاء بما سمي «براءة الضباط»، وظهور وجوه كان لها رمزيتها أيام الوجود السوري في لبنان، أعاد إلى الأذهان مرحلة كان يظن أنها طويت، مرحلياً، على الأقل.

خطابات السيد حسن نصر الله المتكررة على التلفزيون، لشد عصب الطائفة الشيعية، وتحفيزها على الاقتراع بكثافة، صبّ في مصلحة 14 آذار في المناطق السنية أيضاً. وجاءت الضربة الأقسى للمرشحين المعارضين من السنة حين اعتبر السيد حسن نصر الله «يوم 7 أيار يوماً مجيداً في تاريخ المقاومة». أحد السنة المعارضين حتى العظم، اعتبر «العبارة استفزازية إلى حد لا يطاق». «تيار المستقبل» لم يتلق هدية أفضل ولا أثمن من هذه التي قدمها له السيد حسن على طبق من ذهب، في ظروف انتخابية لم تكن مريحة لسعد الحريري بالقدر الذي يشعره بالاطمئنان في مناطق عديدة، كانت قد أعطته أصواتها بلا أدنى تردد عام 2005. وصار بفضل حماستها له زعيماً سنياً كبيراً، بدون منازع. ماكينة الحريري الانتخابية قرعت على أبواب البيوت، واستنفرت على نحو غير معهود، خوفاً من انزلاقة خطرة، لكن الحل جاء من حيث لم يكن زعيم تيار المستقبل ينتظر.

هذه التحولات المهمة لتيار المستقبل، لم تحتج لأكثر من عبارات قليلة يطلقها زعيم طائفة أخرى بثت الخوف في قلوب الناخبين السنة، الخائفين أصلاً من أخطبوطية شيعية تمحقهم. لكن بعض العارفين بالأمور يقولون إن زعيم حزب الله ربما لم يكن معنياً كثيراً بعدة مقاعد يجنيها حلفاؤه السنة في مناطقهم، وخطاباته أثمرت شعبية واسعة في مناطق نفوذ الحزب، وأراحت مناصري حليفه ميشال عون. وحسابات الربح والخسارة باللعب على سيكولوجيا الرعب ليس جديداً في لبنان. وقد فهمت القوى الخارجية مفاتيح الشخصية الجماعية اللبنانية وعزفت على أوتار ضعفها ولا تزال. والزعماء اللبنانيون، في غالبيتهم، وعلى اختلاف طوائفهم، يتحدثون معك وكأنهم علمانيون حتى النخاع في مجالسهم الخاصة، ساخرين من النظام الطائفي الذي يشوه كل شيء، في ما يستخدمون عبارات سامة في طائفيتها وتطرفها حين يخرجون على الشاشات، لكسب رضا جماعاتهم التي ضخوها هلعاً ورعباً. وليس أسهل من تسيير المرضى واقتيادهم إلى حيث تشاء. فمعروف أن مرض الخوف متشعبة مشاربه، وثمة من يخاف الماء أو الظلام، وهناك من يخشى الزهور أو القطط أو الأماكن الشاهقة. واللبنانيون يخشون الشريك في الوطن. وهذا الخوف يجعلهم كمن يظن الحبل حية كلما رآه يتحرك، ويقفز ذعراً. وهو نوع من الخيال القاتل، الذي يمنع صاحبه من إدراك الواقع والتعامل معه وفق شروطه وأصوله. وأنت لا تستطيع أن تقول لمريض يتصبب عرقاً ويلهث بينما تتلاحق ضربات قلبه، لأنه يظن نفسه يركض ـ بينما هو يجلس على كنبته ـ بأن كل ما يتخيله وهم. فكل يعيش في عالمه الذي نسج خيوطه، وحبس نفسه في قوقعته. وعلاج الخوف المستفحل، بات سلوكياً هذه الأيام، ويعتمد على مواجهة ما تخاف منه بشكل متدرج أو على مراحل، بمساعدة الطبيب أو الزعيم. لكن زعماء الطوائف، مستفيدون من «الفوبيا» الجماعية المتفشية، ويبذلون جهداً لرفع منسوبها إلى أقصاه في يوم الاستحقاق الكبير. أليس صحيحاً أن مصائب قوم عند قوم فوائد، وأن الفزع لا يطير الوجع فقط وإنما يقتل المتع أيضا ويقود إلى التهلكة.

[email protected]