من يتحمل اللوم؟

TT

إليكم بسؤال: متى كانت آخر مرة أقدم مسؤولون أميركيون على ممارسة الإيهام بالغرق ضد محتجز؟ حسنا، ذلك كان عام 2003 ـ أي منذ ستة أعوام. إليكم بآخر: متى اكتشف الأميركيون هذا الأمر للمرة الأولى؟ عام 2004 ـ أي منذ خمسة أعوام، تحديدا في 13 مايو (أيار) 2004 في إطار مقال نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» ذكر أن «المحققين التابعين لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لجأوا إلى مستويات تدريجية من القوة، بينها تكنيك يدعى «الإيهام بالغرق»، حيث يقيد المحتجز ويتم دفعه في الماء وإيهامه بأنه على وشك الغرق».

أما المفارقة الأولى التي تنطوي عليها فضيحة التعذيب فهي أنها لا تتعلق بأمور كنا غافلين عنها، وإنما بأشياء كنا نعلمها ولم نحرك ساكنا حيالها، فمنذ ما يزيد على ست سنوات ماضية، انتهك مسؤولو إدارة بوش القانون واقترفوا أفعالا بغيضة بحق المحتجزين تحت سلطتهم. لكن إذا ما كنت تعتقد أن الحل بسيط وواضح ـ وهو أن يخضع كافة المسؤولين الذين انتهكوا القانون للمحاكمة والعقاب ـ فعليك أن تسأل نفسك أولا عن ماهية ما الذي كانت تفعله النخبة السياسية بالبلاد تحديدا على مدار السنوات الخمس الماضية، أو ما الذي لم تكن تفعله، ولماذا. ورغم رغبتنا القوية في قصر الفضيحة على قصة ما كان يدور داخل تلك الغرف المنعزلة على الجانب الآخر من العالم، حيث انبرى المحققون في استعراض مهاراتهم، وداخل المكاتب الحكومية المكيفة، حيث عكف المسؤولون على صياغة تبريرات «قانونية»، فإن القصة تحمل وجها آخر يتعلق بمجتمع علم بشأن ما يجري واختار عدم القيام بأي شيء.

على خلاف الحال مع «ووترغيت» أو «إيران كونترا»، نبعت فضيحة اليوم ليس فقط عن كشف مثير للصدمة لانحرافات وقعت، وإنما من امتداد الفترة الزمنية لعملية الكشف التي اكتفى خلالها الأميركيون بمشاهدة انتهاك القانون دون حراك. ويمس هذا القول الديمقراطيين بقدر ما يرتبط بالجمهوريين، بما في ذلك أعضاء الكونغرس الذين أبدوا استعدادهم للموافقة في سبتمبر (أيلول) 2006 على الموافقة على قانون المحاكم العسكرية، الذي زعم أنه يحمي أولئك الذين طبقوا تلك «الأساليب المطورة للتحقيق» من التعرض للمحاكمة طبقا لقانون جرائم الحرب.

ورغم أنه كان باستطاعتهم إعاقة مشروع القانون، سمح الديمقراطيون بتمريره وتحويله إلى قانون. في ذلك الوقت، كانت انتخابات التجديد النصفي تلوح في الأفق، ولم يخف على أحد أن أحد أسباب طرح الرئيس مشروع القانون، نصب فخ للديمقراطيين ـ بمعنى إلقاء طعم صغير يسمح باتهام أي ديمقراطي يعلن اعتراضه على القانون المقترح بأنه يرغب في «تدليل الإرهابيين». ونظرا لما عانوه من «سياسات الخوف» في عامي 2002 و2004، فضل الديمقراطيون التنحي جانبا. وبعد ستة أسابيع، تمكنوا من السيطرة على الكونغرس.

في الواقع، إن السر القبيح الكامن وراء فضيحة التعذيب الحالية وكافة صيحات التنديد المرتفعة التي تعج بها وسائل الإعلام على مستوى البلاد في الوقت الراهن يتمثل في أنه حتى وقت قريب للغاية، شكلت سياسات التعذيب مصلحة مشتركة مع جانب المعارضة السياسية. ولذلك، فإنه رغم معرفتنا بالعناصر الرئيسة المتعلقة بعمليات التعذيب منذ صيف 2004، امتنع غالبية السياسيين عن اتخاذ أي إجراء إزاءها. وعليه، أصدر الجمهوريون أوامرهم بممارسة التعذيب وأيدوا ذلك، مثلما يفعلون الآن، طالما أن باستطاعتهم أن يطلقوا عليه وصفا آخر. أما الديمقراطيون، الذين التزموا وضع الدفاع منذ هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 باعتبارهم الحزب المتهاون حيال الأمن القومي، فلم يروا ما يخدم مصلحتهم في مناصرة قضية تفتقر، على ما يبدو، للتأييد الشعبي. والواضح أنه في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، تحولت القدرة إلى إظهار الخشونة إلى سمة مميزة تكسب المرء ثقة الآخرين. والتساؤل القائم الآن: هل رغب الديمقراطيون حقا في التحول إلى الحزب الذي يتصدى للدفاع عن حقوق خالد شيخ محمد؟

والآن، نشهد ملء الفراغات بين العناوين الرئيسة المعروفة منذ أمد بعيد. منذ عدة أسابيع ماضية، نشرت تقريرا في «نيويورك ريفيو أوف بوكس» صادرا عن «اللجنة الدولية للصليب الأحمر»، تناول على نحو مفصل روايات أشخاص تعرضوا للتعذيب في «مواقع سرية». وفي أعقاب ذلك بفترة قصيرة، كشفت إدارة أوباما أربع مذكرات وضعها محامو وزارة العدل «قننت» التعذيب الذي ورد وصفه في تقرير «اللجنة الدولية للصليب الأحمر». تثير هذه الوثائق، سواء كانت روايات المحتجزين حول ما شكل بوضوح ممارسات تعذيب أو الحجج المعوجة التي ساقها المحامون لتبريرها، شعورا بالفزع.

وتتجلى المفارقة في أن تلك المذكرات الصادرة عن وزارة العدل جرت كتابتها لهذه اللحظة فقط، أي اللحظة التي ستتكشف فيها الحقيقة بأكملها. وتعتبر المذكرات لنتاج الحقيقي لما أطلق عليه «لجنة الكنيسة»، المرتبطة بتحقيق أجري في منتصف السبعينيات حول تجاوزات لوكالة الاستخبارات المركزية كتلك المتعلقة بالفضيحة الراهنة، وأدى هذا التحقيق إلى إحداث تحول دائم في أسلوب تنفيذ العمليات السرية. قبل تحقيق «لجنة الكنيسة»، كانت العمليات السرية، أو «المظلمة» كما يطلق عليها، تجرى بدون تصريح قانوني واضح، وحال تسليط الأضواء على وقوع تجاوزات، كان الرئيس ينفي معرفته بالأمر. لكن بعد التحقيق، بات الرئيس مجبرا على التوقيع على أمر يتضمن موافقة صريحة. وبالنسبة لديك تشيني، نائب الرئيس السابق، والمسؤولين الآخرين، فإن هذه التصريحات والإصلاحات الأخرى التي تمخضت عنها «لجنة الكنيسة ـ بما في ذلك قانون مراقبة الاستخبارات الأجنبية والقوانين الأخرى التي تقلص سلطة الرئيس في استخدام وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ـ كان يجري الالتزام بها في الأوقات التي كانوا لا يتبعون فيها سياسات عدوانية.

وعليه، فإنه بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، عندما باتت سياسات الإدارة عدائية، لم يكن ممكنا نفي ما يجري، حيث جرى توثيق كافة الإجراءات عبر المذكرات الموجزة الخاصة بالمحامين وتقارير مجموعات الدراسة والتوقيعات الرسمية. ويؤدي هذا بنا إلى المفارقة الثالثة للتعذيب، وهي أن المسؤولية موزعة على مساحة بالغة الاتساع، بداية، مثلما يقال، من «أعلى المستويات»، وبذلك لم تعد المشكلة ما إذا كنا نحاكم المسؤولين عن هذه الفضيحة، وإنما من نحاكمه، وإلى أي مستوى في السلطة ينبغي الوصول. في الواقع، هناك عدد هائل من المسؤولين المتورطين بالفضيحة، وهو ما يدركه جيدا جورج تينيت وآخرون داخل وكالة الاستخبارات المركزية، وقد تنبأوا تحديدا بهذه اللحظة، وكانوا عاقدين العزم على ألا يكونوا الوحيدين المعرضين للمساءلة عن هذا الأمر، عندما تهدأ الأوضاع وتبدأ المحاسبة.

من ينتهكون القانون سيتعرضون للعقاب، وهذا يشمل من مارسوا التعذيب. لكن محاكمات من مارسوا التعذيب إذا أجريت قبل إجراء تحقيق عام، لن تنهي الحجة المدافعة عن التعذيب. بل على العكس، ستبدو في أعين الرأي العام كتحول حزبي آخر في إطار السياسات المريرة المتعلقة بالأمن القومي، تم اتخاذه فقط لمعاقبة من فعلوا ما كان ضروريا لحماية البلاد. وسيشجع ذلك أنصار التعذيب على الإعلان عن حجج أكثر حدة تؤكد أن من يمارسون التعذيب فقط هم القادرون على حماية أميركا.

ومن أجل فضح هذه الحجج المضادة وتسليط ضوء الحقيقة عليها، ثم تدميرها، من الضروري إجراء تحقيق عام، ليس فقط من أجل اليوم وإنما كذلك الغد عندما تتنامى الضغوط على نحو هائل لتصديق هذه الادعاءات في أعقاب هجوم إرهابي آخر يخلف أعدادا ضخمة من الضحايا. وإذا ما حدث ذلك، ستتحول أميركا إلى بلد آخر مختلف تماما ـ وسنقع جميعا في قبضة مفارقات التعذيب على نحو لا خلاص منه.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»