ذكرى عطرة بلا مساحيق

TT

تذكرنا، هنا في لبنان، مرور 22 عاماً على غياب رشيد كرامي، السياسي الوحيد الذي أحيل قاتلوه على المحاكمة. وإذ غابت الاحتفالات الرسمية والشعبية، قدر للرجل أجمل نوع من الاستذكار. فقد عرض تلفزيون لبنان، الذي تحول إلى قناة أرشيفية من أيام الأسود والأبيض وأحياناً من أيام السينما الصامتة، عرض مقابلة أجرتها ليلى رستم مع كرامي العام 1970.

وكانت ليلى رستم وجهاً مصرياً ساحراً ملأ تلفزيون لبنان وأدخل إليه فن المقابلة الشخصية على أرقى ما يمكن. فقد كانت تذوب احتراماً وتقديراً أمام ضيفها. وكانت بمهنتها الرفيعة تسأل بخفر ولا تحاول أن تؤدب بفجور. وكانت تسأل وتنتظر الجواب من صاحب السيرة والتاريخ والمقام، ولا تطرح السؤال ثم تمنع الضيف من الإجابة. أو تضحك ساخرة مما أجاب حتى تسقط مساحيقها.

أعادتنا ليلى رستم إلى زمن الرجال الكبار ومذيعات الألق والشفافية والموهبة غير المركبة. وقدمت لنا رجلاً من كبار السياسيين العرب وأعرق المسؤولين، برغم صغر بلده وضراوة سياسييه. كان رجلاً مستقيماً عاملاً بلا أي كاريزما، يختلف معه الكثيرون لكن الجميع أحبه واحترمه وأدرك يوم اغتيل أن لبنان فقد جذعاً كبيراً من الشجرة التي يستفيء بها. فبيته كان من البيوت التي صنعت الاستقلال وأقامت الوحدة الوطنية وجعلت عروبة لبنان الصغير في أهمية عروبة الكبار. كان متديناً، متقشفاً، عفيف اللسان، لكنه كان أيضاً ساخراً ممتعاً بكل أدب. وكان سريع الخاطر، بديع الخاطرة، صلباً لا يكسر ولينا لا يعصر. وقد داهمته الحرب بكل وحشيتها لكنه رد الكثير من أذاها ومن ضررها ومن قباحتها. وانقسمت الدولة والحكومة فظل هو القاسم المشترك. وأبقى على الحدود الدنيا من هيبة الدولة وإصدار المراسيم. وبرغم عدائه لرئاسة الجمهورية ظل يتصرف كرئيس للوزراء وبمرتبته وصلاحياته.

لا أعتقد أن سياسياً غيره حافظ على الميزان الوطني كما فعل. وعندما فقد الجميع عقولهم كان صوته البارد وجملته المطولة التي لا تقول شيئاً، تبعث الطمأنينة في قلوب الخائفين. ومن أجمل ما ترك، بكامل أناقته ووسامته وخفره، تلك المقابلة مع ليلى رستم، التي كانت تملأ الشاشة عذوبة وخفة ظل وتأدبا، قبل أن تنتقل الشاشة إلى عصر المساحيق واللجاجة والسخرية.