نكتة القرن الصهيونية: (الولايات المتحدة الإسلامية)!!

TT

«قررت أن أبدأ جولتي من مهد الإسلام».. قالها باراك أوباما وهو يزور السعودية.. وكان عنوان مقال الأسبوع الماضي - هاهنا - هو (أوباما: أنت في المنبع الأول للحضارة الإسلامية).. والفارق بين التعبيرين (لفظي).. وهذا أمر يسرنا: يسرنا أن يحصل تطابق في الفهم حول (المكانة الأولى) لبلادنا من حيث هي محضن المدينتين المقدستين: مكة المكرمة، والمدينة المنورة وهما المدينتان اللتان شهدتا تنزل النور الذي أضاء جزيرة العرب - عقولا وقلوبا وبيئة - فأضاء - من ثم - العالم.

ثم أن إيراد كلمة أوباما عن (مهد الإسلام الأول) مدخل تلقائي موضوعي لتحليل خطابه في مصر يوم الخميس الماضي. فقد كان خطابا مترعا بالمضامين الإسلامية: بالإسلام دينا ومنهجا، وبالمسلمين أمة ووجودا حضاريا.. ومما قاله في هذا المجال: «إن النهضة الإسلامية مهدت للنهضة الأوروبية وعصر التنوير. وبحكم دراستي للتاريخ أدرك أن الحضارة الإنسانية مدينة للإسلام.. والمسلمون قد ساهموا في بناء بلدي وإثرائه فهم الذين بنوا أكثر عماراتنا ارتفاعا.. ومن مسؤوليتي كرئيس للولايات المتحدة أن أكافح الصورة النمطية السلبية عن الإسلام».. وسنصطفي من مضامين خطابه:

1ـ مضمون أن حركة (التنوير) في أوروبا متأثرة بطاقة التنوير التي أطلقها الإسلام في العالم الإنساني.. وهذا صحيح. فعلى عكس من الذهنية الشائعة وهي: أن الإسلام - كدين - مناهض للتنوير أو نقيض له، وهي ذهنية تمددت في عدد غير قليل من أدمغة مثقفي المسلمين أنفسهم، على الرغم من ذلك، فإن الحقيقة الموضوعية تقول: إن الإسلام نهضة تنويرية (بما في الكلمة من معنى علمي وواقعي).. فمن الناحية العلمية: الإسلام رسالة تنوير.. وفي هذا المجال ليس يسبق (الإحياء العقلي) سابق. فالتنوير إنما من العقل يبدأ، وهي البداية المنهجية الحقة، إذ لا نهضة حقيقية - في أي حقل - في غياب العقل، أو في حالة تحجره وجموده، لذا نستطيع التقرير - بهدوء وثقة ويقين وبرهان - أن النهضة التنويرية الإسلامية العظمى كان (العقل) مفتاحها ونافذتها ومدخلها وآليتها الفاعلة الحاسمة.. ولقد أطلق المنهج: نهضة التنوير العقلية في سياقات شتى: سياق (الأمر الحصري) بمطلوب واحد - في البدء ـ وهو) التفكير): «قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا».. وسياق الحملة الطويلة الملتهبة المركزة على التقليد الغبي الضرير لكل من يخالف العقل ويراغم مقاييسه ومنطقه: «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولوا كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون» إلخ.. وينبثق التنوير العقلاني من أصل أكبر وهو: أن الإسلام كله طاقة تنوير. فهذه الكلمة (تنوير) مشتقة من كلمة (النور).. والنور هو حقيقة القرآن: «يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا».. والرسول سراج منير: «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا. وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا».. والمقصد الأعظم لرسالة الإسلام هو (تنوير) الحياة البشرية بالعلم والمعرفة والحق والهدى والنور: «كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد».. هذا من الناحية التنويرية العلمية.. أما الجانب التطبيقي للتنوير فتعالوا نصغي إلى المؤرخ الكبير هربرت ويلز الذي سجل في كتابه (موجز تاريخ العالم) هذه الحقيقة التنويرية إذ قال: «لقد تمت للعرب في حقول العلوم الرياضية والطبية والطبيعية ضروب كثيرة من التقدم، ولا شك أنهم وفقوا إلى مستنبطات هائلة في المعادن، وفي التطبيق الفني لها، ولهذه التطبيقات قيمة قصوى وأثر عميق في نهضة العلوم الطبيعية في أوروبا».

2 ـ المضمون الثاني: النسيج الجيد المرتقب لعلاقات أصح بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة عبر جسور عديدة منها جسر مسلمي أميركا نفسها. فـ(العالم الإسلامي) مصطلح عام يطلق على المسلمين أجمعين: (الدول ذات الأغلبية المسلمة، والأقليات التي تعيش في دول غير مسلمة).. ومن المؤكد أن مسلمي الولايات المتحدة يدخلون في نطاق العالم الإسلامي.. ومن هنا، فإن الضرورة الوطنية الأميركية توجب التعامل الجيد مع العالم الإسلامي، لأن جزءا من شعبها هو - في الوقت نفسه - جزء من العالم الإسلامي. بل يمكن القول: إنه من الجنون أن تدخل أميركا في حرب أو حالة توتر مع العالم الإسلامي.. لماذا؟.. لأنها عندئذ تدخل في حرب أو توتر مع نفسها، أي مع قطاع واسع من الأميركيين الذين يدينون بالإسلام.. ويتعين النظر إلى هذه المسألة من زاوية: أن تقاليد الولايات المتحدة وقوانينها تسمح بدوام العلاقة بين مواطنيها وبين بيئاتهم وأعراقهم ومصادر ثقافتهم وعقائدهم الأولى.. وهذا من فضائل (التنوع الأميركي) على كل حال.

3 ـ ومن هذه المضامين: حرص الرئيس الأميركي على أن يتمتع مسلمو أميركا بحقوقهم في تطبيق فريضة الزكاة، وارتداء الزي الإسلامي بالنسبة للمسلمات - مثلا ـ ومن الشهادة بالحق أن نقول: إن حكاما مسلمين (!!) لا يحرصون هذا الحرص على شرائع الإسلام، وأن كتابا عربا ومسلمين يجادلون في هذه الأمور بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير: بلا عدل ولا عقل ولا سماحة.. ولربما استهجن هؤلاء وأولئك طرح أوباما وحرصه!

ومن تمام التعليل والتحليل لخطاب أوباما في مصر: التحديق في ردود الفعل عليه، وهي ردود فعل تراوحت بين (الهيام) به، والنفي التام لأي إيجابية فيه، واتهامه بتحويل أميركا إلى الإسلام.. ولقد نحت الإعلام السياسي الصهيوني تعبيرا جديدا وهو (الولايات المتحدة الإسلامية)!! ويقصدون به أن محاولات أوباما تحسين العلاقة مع العالم الإسلامي هي محاولات لـ(أسلمة) أميركا!.. فهل هذه نكتة الموسم أو القرن أو التاريخ كله؟!.. ليست نكتة، بل هي (مفردة سياسية) نحتها نحاتو المفردات السياسية الصهيونيون كما نحتوا من قبل مفردة (الإسلام هو العدو البديل)، أي البديل للاتحاد السوفيتي بعد سقوطه.. وهؤلاء النحاتون يعلمون - بيقين - استحالة قدرة ورغبة أوباما في تحويل أميركا إلى دولة مسلمة.. ومن بداهات الاستحالة: أن أوباما أقسم على الولاء للدستور الأميركي وإنفاذه.. والدستور الأميركي ينص على أن الدولة الأميركية (علمانية) محايدة تجاه الدين، فلا تعادي دينا، ولا تتبنى دينا.. هم يعلمون ذلك ولكنهم يطرحون هذه المفردة السياسية الإعلامية المستفزة المهيجة بهدف (تعطيل) أي تحسن في العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي. فالتحسن يعني - بالضرورة ـ مواقف أميركية: عادلة وإيجابية بإزاء العالم الإسلامي.. وهذا أمر ترتاع منه الصهيونية التي بنت استراتيجيتها على الشقاق الدائم بين هذين الطرفين، والتي نصبت نفسها (وكيلا إقليميا) لأميركا في منطقتنا هذه، تمر مصالح أميركا والعرب من خلاله، وكما يهوى.. وثالثة الخبائث: أن قسطا هائلا من تشوه صورة أميركا لدى العرب والمسلمين يعود إلى تورط السياسة الخارجية الأميركية في خدمة الأجندة الصهيونية. ومن هنا فإن إصلاح هذه السياسة الخارجية يقتضي فك الارتباط بين ما هو أميركي وما هو صهيوني، وهو فك يرتاب منه جدا غلاة الصهيونية وكأنهم يرفعون شعار (المحافظة على المكاسب الصهيونية تساوي الاحتفاظ بأميركا قبيحة) الوجه والسلوك في العالم الإسلامي.. وبمناسبة الشعارات يمكن أن نرد على المفردة الصهيونية (الولايات المتحدة الأميركية الإسلامية): وهل تريدونها أنتم أن تكون أبدا (الولايات المتحدة الصهيونية)؟!

ومن ردود الفعل: النفي التام لأي إيجابية في خطاب أوباما وهو نفي لا عقل فيه ولا واقعية ولا خلق لأن الموضوعية تقول: إن في الخطاب إيجابيات كثيرة.. وهنا ينبغي التفريق الواضح بين نفي الإيجابيات بإطلاق وبين نقد الفجوة بين القول والعمل. فالنفي موقف غير عقلاني وغير أخلاقي، على حين أن نقد هذه الفجوة واجب مشروع حتى يتناغم السلوك الأميركي مع القول الأميركي.

أما رد الفعل العاشق الحالم الهائم فهو أقرب إلى الهزل أو السذاجة، وهو رد يندرج في حفلة إشاعة الإعجاب بأميركا دون تغيير حقيقي في سياساتها تجاه قضايانا، بمعنى إشاعة الإعجاب بأميركا من خلال التلميع المبالغ لشخصية أوباما، واستثمار جاذبيته وبلاغته وخلقه المتواضع في هذه الحفلة.. وهذه لعبة منقوضة بأن الوعي السياسي قد بلغ درجة من النضج لا تسمح بتقبله لهذه الاستعراضات السياسية.

والاجتهاد في الموقف الصحيح يتلخص في أن أميركا وجدت نفسها في (عداوة مفتعلة) مع العالم الإسلامي، وأن الإدارة الجديدة قررت ـ بمنطق مصالحها - إنهاء هذا الافتعال الذي ترتب عليه خسائر حقيقية لأميركا في صورتها ومصداقيتها وأمنها، وهو توجه يتعين الاحتفاء به من أجل مبادئنا ومصالحنا. وهذا كله يتطلب نضالا مشتركا، فركض أوباما لا ينوب - قط - عن (الكسل الدبلوماسي): العربي الإسلامي. (فمن لم يساعد نفسه يتعذر على الآخرين مساعدته) كما قال الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي.