ولي العهد أنقذ رئيس الحكومة من ورطته

TT

حضور الأمير تشارلز، ولي العهد البريطاني، نيابة عن الملكة اليزابيث الثانية، رأس المملكة المتحدة ودول الكومنولث، اليوم احتفالات الذكرى الـ 65 ليوم هبوط الحلفاء على شواطئ نورماندي في السادس من يونيو 1944 جاء في اللحظة الأخيرة.

وهي المرة الأولى التي يسافر فيها أحد أفراد العائلة الملكية بإنذار وقت قصير (اقل من أربعة أيام) باستثناء موت رؤساء الدول المفاجئ وضرورة حضور ولي العهد أو من تختار الملكة أن ينوبها. فبعد ظهر الثلاثاء تدخل الأمير تشارلز (وهي ليست المرة الأولى) بمبادرة لحل أزمة كان يمكن أن تتطور لحادثة ديبلوماسية، لها جوانب سياسية، لينقذ رئيس الوزراء غوردون براون من ورطة كبيرة تزيد من مشاكله في وقت بلغت فيها شعبيته وحكومته الحضيض؛ بعد أن اتضح أن الفرنسيين لم يوجهوا الدعوة لجلالة الملكة لحضور المناسبة.

تدخل ولي العهد حبا في الوطن واحتراما لقدماء المحاربين، بعد اتهام ممثليهم لحكومة براون بعدم إظهار الولاء والامتنان لمن قدموا التضحيات في سبيل الوطن؛ واتهمها المعلقون والصحافيون (باستثناء صحف اليسار) بالاستهتار بقواعد بروتوكولية أساسية لا غنى عنها كطقوس استمرارية الدولة الدستورية الملكية كالملاذ الأخير للديموقراطية. بينما اتهمها معلقون بفقدان الإحساس والاتصال بأبناء الأمة.

المعلقون من مفضلي النظام الملكي المستقر، اتخذوا من الحادثة دليلا على أن الايدولوجية الاشتراكية والنفوذ اليساري تغلغلا في حكومة براون مما أدى إلى سيادة مزاج حكومي يقلل من شأن ذكرى أهم حرب في تاريخ الأمة، بل ويريد، لو كان الأمر بيد أصحاب هذا التيار اليساري، إعادة كتابة التاريخ وكان الحرب العالمية لم تصل ارض بريطانيا وتتحطم مدنها ويموت أطفالها ونساؤها بين الأنقاض في حرب دخلتها أصلا دفاعا عن الجيران الأوربيين أمام النازي.

وكان قصر باكنغهام اصدر قبل عشرة أيام بيانا قصيرا يوضح أن الفرنسيين لم يوجهوا الدعوة لجلالة الملكة، وبالتالي لن تحضر أو أي من أفراد أسرتها هذه الاحتفالات.

وغضب المحاربون القدماء، وتزعمت الحملة صحيفة الديلي ميل، وهي صحيفة يمين الوسط، والتي توزع أكثر من مليون ونصف مليون نسخة يوميا وتعتبر لسان حال الشرائح الدنيا من الطبقات الوسطى واغلب قرائها نساء. والحملة جمعت مئات الآلاف من الأصوات والتوقيعات توبخ الفرنسيين، وتذكرهم بأن 17556 بريطانيا، و5316 كنديا، وكلاهما من رعايا الملكة، ضحوا بحياتهم لتحرير فرنسا من الاحتلال النازي، فهل يرد الفرنسيون الجزاء بعدم دعوة ملكتهم؟

وأشار معلقون فرنسيون إلى أن الاحتفال خطط لحضور الرئيس باراك أوباما مع الرئيس الفرنسي نيقولاس ساركوزي، وخشي الأخير من أن حضور الملكة، سيخطف الأضواء منه، لان جلالتها لا تزال السيدة رقم واحد في الشعبية لدى وسائل الإعلام العالمية.

وللفرنسيين سابقة في إهانة الشخصيات البريطانية. ففي احتفالات العيد المئتين للثورة الفرنسية عام 1989، دعيت رئيسة الوزراء السابقة البارونة مارغريت ثاتشر. وكانت أدلت قبلها بأيام بحديث صحافي فضلت فيه النظام الملكي على النظام الجمهوري، لأن الأول ثبت انه أكثر أنظمة التاريخ استقرارا، وأضافت بأن التطور الطبيعي المستمر للنظم السياسية أفضل من الثورات التي تسبب الكوارث وتكون أضرارها على الأمة أفدح من الأوبئة والزلازل.

وجاء انتقام الفرنسيين رخيصا بتخصيص مقعدها في العرض في الشانزليزيه في المقاعد الخلفية وراء بلدان العالم الثالث الصغرى؛ لكن وسائل الإعلام الانغلوساكسونية، ركزت عليها وتابعت حركاتها وأجرت لقاءات خاطفة معها، مما حول الكاميرات من الرئيس الراحل فرانسوا ميتران إلى السيدة الحديدية، مضيفة نصرا آخر إلى انتصارات بريطانيا في آجينكور (25 أكتوبر 1415) وفي كريسي (26 أغسطس 1346) على الفرنسيين في أرضهم.

وقبل خمس سنوات، حضرت الملكة ورؤساء دول الحلفاء احتفال الذكرى الستين، ولا يدري الجيل الأصغر سنا الذي يدرس مناهج تعليم أفسدها تدخل الحكومة العمالية والمخططين اليساريين، مدى أهمية تفتيش الملكة اليزابيث حرس شرف من محاربين قدماء ينتمون لنفس جيل جلالتها.

فالملكة هي رأس الدولة الوحيدة بين الحلفاء، التي ارتدت يونيفورم الجيش الإمبراطوري البريطاني المتعدد الأعراق والديانات.

تطوعت الأميرة اليزابيث فور قيام الحرب وظلت طوال سنواتها تعمل في سلاح المهندسين ودميت يداها في إصلاح سيارات الجيب العسكرية.

ولذا فحضور الملكة، في نظر المحاربين القدماء ضرورة تاريخية. فمتوسط عمرهم 84 عاما وتسعة أشهر، فأصغرهم سنا تجاوز الـ 77 وبعضهم في نهاية الثمانين، وقد لا يعيشون حتى الاحتفال الـ 70 للـ D-Day يوم هبوط الحلفاء على شواطئ نورماندي الفرنسية عام 1944 وبداية عملية تحرير أوروبا من النازية.

ويمكن المجادلة بأن العالم كله يدين لتضحيات الجنود هؤلاء الجنود بدمائهم على صخور ورمال شاطئ نورماندي خاصة البريطانيين والكنديين والأميركيين الذين فقدوا آلافا في هذا اليوم. فلولا تضحياتهم لما تمتعنا اليوم بهذه الحرية، سواء كنا بريطانيين، أو أوروبيين، أو حتى مواطني بلدان الشرق الأوسط (فهدف النازي من حملة شمال أفريقيا كان احتلال منابع بترول الشرق الأوسط، والعرب في الايدولوجية النازية هم من الأجناس المتدينة) ولما وجد قارئ «الشرق الأوسط» العزيز بين يديه صحيفة تعبر فيها الأقلام بحرية.

وما زاد من إحراج رئيس الوزراء البريطاني تصريح متحدث البيت الأبيض في مطلع الأسبوع بأن الإدارة تعمل لإصلاح الخطأ الديبلوماسي بترتيب دعوة للملكة؛ فأسرع قصر باكنغهام بإصدار بيان ثان أعلن فيه فوات الأوان لحضور الملكة أو أي شخص من أفراد الأسرة.

التدخل الأميركي أثبت يقظة الجهاز الديبلوماسي للبروتوكول والمراسم في البيت الأبيض، والحساسية والوعي التاريخي لمستشاري الرئيس أوباما. فمن ناحية أراد أن يؤكد على عمق التحالف والصداقة التاريخية الانغلوأميركية وهي الأهم في استراتيجية السياسة الخارجية الأميركية من صداقة فرنسا. ومن ناحية أخرى اتضحت دقة المخابرات الأميركية في رصدها للمزاج الشعبي البريطاني، الذي انخفضت لديه مصداقية حكومة العمال التي قد لا تستمر طويلا.

واشنطن طبعا ترغب في استمرار علاقة طيبة مع الدولة البريطانية الثابتة في رمزها الأعلى، وهو الملكة، وبالتالية فهي علاقة مستمرة بينما تتغير الحكومة بالانتخاب، وحكومة العمال لن تمر طويلا.

وطبعا انزعجت إدارة أوباما من جليطة الفرنسيين وعدم انتباههم ـ أو تعمدهم تجاهل البروتوكول.

خطأ براون، والذي لن يسامحه فيه الرأي العام، عدم انتباهه مبكرا لخطة الفرنسيين بتهميش دور بريطانيا في الحرب أمام الأجيال الشابة التي لا تذكر وقوف بريطانيا وحدها كالخندق الأخير للحضارة الإنسانية أمام جحافل النازي. وكان لزعامة السير ونستون تشريشل الفولاذية الحكيمة، ولتضحيات سلاح الجو الملكي الأسطورية أمام هجمات اللوفتوافا التي تفوقه عتادا وعدة، الفضل الأكبر في تحويل مسار التاريخ وانتصار قوى الديموقراطية على النازية والفاشية.