أوباما يعلن إفلاس المؤسسة العامة لسوء الظن

TT

بعد يومين من إعلانه إفلاس أشهر وأقوى المؤسسات الصناعية في أمريكا، وهي جنرال موتورز، جاء أوباما إلى القاهرة ليعلن في أعرق جامعاتها، إفلاس أقوى مؤسسات الشرق الأوسط الإعلامية والفكرية وهي المؤسسة العامة لسوء الظن. هي مؤسسة قوية وعريقة كانت قادرة على مدى عشرات السنين على حماية العقل المصري والعربي بوجه عام، من كل الهجمات التي تستهدفه، وتعمل على إرغامه على التحرر والعمل بهمة وجدية علي تحقيق حياة أفضل لسكان المنطقة. وهي مؤسسة ثورية قديمة قدم النضال ضد الإمبريالية، وشركة مساهمة عربية لا تقبل بين أعضائها إلا هؤلاء الذين يؤمنون بشعارها الخالد «سوء الظن من حسن الفطن» وسوء الظن درجات تماما كأنواع القطن وأنواع الإنفلونزا، وسوء الظن يعمل عادة عندما يكون في نطاقه المعقول، كآلية دفاعية داخل العقل تحمي الإنسان من النصابين والدجالين. غير أن المؤسسة لا تعترف ولا تقبل بين صفوفها من لديهم ذلك القدر الضئيل المسموح به دوليا وإنسانيا من سوء الظن، أقصد ذلك القدر الكفيل بدفع الإنسان للتحقق مما يقال ويحدث بهدف الوصول إلى الحقيقة، بل هي تتطلب لعضويتها، أعلى درجات سوء الظن، بمعنى أدق، هي لن تقبل بين صفوفها أي شخص لم يمتلئ عقله وقلبه بسوء الظن بالآخرين وخاصة هؤلاء (الأجانب الأغراب) الذين يدلونه أو يقترحون عليه أقصر الطرق لحل مشاكله لتحسين أحواله ومعيشته.

وإذا كانت القاعدة الشهيرة تقول بأن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، فهذا ما حدث بالفعل لهذه المؤسسة، بعد أن تحولت الآلية الدفاعية للشعار إلى آلية لتدمير الذات، بعد أن تزايد وتضخم سوء الظن فخرج عن دائرة الفطنة إلى خانة ضعف العقل وتدهوره. صدقني، فأنا أحدثك كخبير، فقد كنت عضوا في هذه المؤسسة منذ نصف قرن تقريبا، لم أكن عضوا عاملا بل منتسبا نظرا لأن درجاتي في سوء الظن لم تكن كافية بعد أن لاحظ المحيطون بي من الفطنين، أنني أتعامل مع أفكار الآخرين أحيانا بحسن نية أو بغير قدر كاف من الشك فيها، وهو ما دفعهم في النهاية إلى التخلص مني وخصوصا بعد أن بدأت أفكر علنا في أنه جاء الوقت الذي ننتقل فيه من صراع الحرب مع إسرائيل إلى تنافس السلام.

إنني أزعم أنه لا الرئيس أوباما أو أحد من مساعديه كان يتصور بأن يلقى هو وخطابه كل هذا التأييد وكل هذه التحية وهذا التصفيق الحاد من الشباب، الذين جاءوا من كل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، ولأكثر من ثلاثين مرة تتخللها صيحة، نحن نحبك. من الصعب علي أن أعتقد أن أحدا من موظفي الخارجية الأمريكية أو البيت الأبيض كان قادرا على التنبؤ بذلك. لا شك أيضا أن السادة المدعوين من الجيل القديم وجيل الوسط قد شعروا بالصدمة لكل هذا العدد من الشبان السذج الذين يصفقون بكل هذه الحرارة لممثل الإمبريالية العالمية رقم واحد. بدا ذلك واضحا من طريقتهم المترددة والحذرة في التصفيق، هم ليسوا جميعا بالطبع أعضاء في المؤسسة، غير أن الحذر واجب في مثل هذه الظروف، ربما تلتقط الكاميرات صورة لك وأنت تصفق بحرارة للرئيس الأمريكي وهو يتكلم عن السلام وعن حتمية العمل من أجل إقامة الدولة الفلسطينية، عندها لا أحد يستطيع التنبؤ بما ستفعله المؤسسة بك. إن خطورة هذه المؤسسة ليست فيما تفعله بأعضائها من تدمير لأرواحهم بل في ترويعها وابتزازها للآخرين ما يدفعهم إلى إخفاء حقيقة ما يفكرون فيه.

الشك والريبة وسوء الظن والخوف والعجز والإحساس بالدونية، هي بالضبط ما استطاع هؤلاء الشبان الإفلات منه، لذلك صفقوا وهللوا بغير تحفظ لشخص تحول إلى رمز في العصر الحديث، كل منهم يرى بداخل نفسه أوباما قادرا على الانطلاق إلى أعلى للوصول إلى أعلى الأهداف. لقد رأوا فيه التجسيد الواقعي للتعليم الراقي والجهد الشاق والثقة بالنفس والثقة بالآخرين والرغبة الحقيقية في العمل من أجل المجتمع. هذا التأييد من الشبان في مصر، لم يشعر أوباما بالارتياح فقط، بل بالفرحة، إن أقدم مظاهر الفرحة عند البشر بلغة الجسد هي عندما تصعد السلالم عدوا. لم يحدث منذ اختراع الطائرات أن صعد رئيس لدولة أو حتى مدير عام فيها سلالم الطائرة عدوا، التحية الصادقة وتأييد الشبان للأفكار التي طرحها والقاعة الفخمة الغنية في الجامعة التي بنتها مصر في أعظم سنوات الليبرالية، ثم مسجد السلطان حسن وأبهته وقدرته على الصمود ثم الأهرامات معجزة البناء البشري التي عجزت الأجيال عبر آلاف السنين عن تخطيها، كل ذلك جعله يطير صاعدا سلالم الطائرة الأمريكية رقم واحد، الفرحة فقط هي ما يجعل الإنسان قادرا على الطيران.

لقد تكلم أوباما عن هؤلاء الذين يستخدمون الديمقراطية للوصول إلى الحكم ثم يتفرغون بعدها إلى القضاء على الديمقراطية، وعلى كل مفردات السياسة والمجتمع المدني، هل كان فرحا لأنه تأكد أن هذا النوع من الديمقراطيين لن يصل مطلقا إلى الحكم في وجود هؤلاء الشبان؟.. ربما.