العراق والكويت: العيش في الماضي

TT

يبدو أن قدر منطقتنا أن تظل جراحها غير مندملة، ونارها تحت الرماد وأزماتها حبلى بأخرى، إنها اعتادت أن تخالف منطق الأشياء، ولا تستفيد من تجارب الآخرين ناهيك عن تجاربها، يمر الأمس بها دون أن تأخذ منه حتى عبره، وتبقي غدها مرتهنا لماضيها وتجعل من ماضيها هذا يمتد أقصى ما يكون الامتداد ليحكم مستقبلها، وإلا إذا كان من جوار ما يمكن له أن يطوي صفحة الماضي ويتطلع إلى المستقبل ويزيل المرارة ويطوق الأزمات ويعالج بؤر الاحتقان فإنه لا شك سيكون الجوار العراقي الكويتي. ولتدليلي على ذلك سأنطلق من فرضية، هي أن الكويت كدولة لم يكن مقدرا لها أن تستقر وتأمن وتمضي بحياتها الطبيعية وتتطلع إلى المستقبل في ظل النظام العراقي السابق، هي وإن اتكأت على الأمن المستورد من خارج المنطقة فإنه ما كانت لتقدر أن تبقيه إلى أبد الآبدين في عالم متغير، وهذا بالضبط ما كان ينتظره نظام صدام، فهو وإن انحنى لموجة الضغط الدولي والعقوبات فإنه ما كان ليستسلم ويتنازل عن طموحاته في السيطرة والهيمنة، وهذا ما كان جليا من بيان انسحابه إلى إعلانات قبوله القرارات، فهي محملة بهذا المضمون، حيث كان يعد بأنه ستكون له مع الكويت جولات، وكلنا نذكر أن ابن رئيس النظام عدي في صحفه سرعان ما عاد يسمي الكويت كاظمة ورافضا لوجودها مستعيدا طروحات الأصل والفرع، منتظرا سنوح الفرصة بتراخي القبضة الدولية وتحرك التوازنات القطبية.

لذا فمع الشعب العراقي، على الأقل جزؤه الذي كان يشعر بثقل النظام الدكتاتوري وفضل التغيير، فإن الكويت كانت ستكون المستفيدة والمتطلعة إلى تغيير هذا النظام، حيث لا ضمانة لها مع جار تداخلت معه في إرث طويل من التوترات إلا بمجيء نظام مسؤول خاضع للمساءلة، قراراته منضبطة بمؤسسات ومقيدة بدستور، ينبذ سياسات العنف متطلعا إلى أن يكون عامل استقرار وتعاون في فضائه ومع محيطه.

فالقرارات التي اتُّخذت ضد العراق بعد غزوه للكويت عام 1991 كانت لإضعاف ذلك النظام وللتضييق عليه ومنعه من أن يكون مهددا للسلام والأمن الدوليين تمهيدا لإسقاطه حسب أهداف البعض، فهي رغم كونها تستظل بالشرعية الدولية، فإنها من الواضح اتخذت ضد نظام معين وفي ظرف زمني وليس ضد شعب وبلد وإلى أمد مفتوح، وبالتالي فهم تحرك الكويت الأخير لإبقاء العراق تحت الفصل السابع والحراك الدبلوماسي الذي قاموا به على الأعضاء الدائمين وغير الدائمين في مجلس الأمن لإبقاء العراق تحت العقوبات إلى أن يفي بالتزاماته في القرارات المتعلقة بالكويت بأنه موقف سلبي تجاه مسألة ماسة بالسيادة وتكبل النظام السياسي الجديد وتبقي شعب تحت العقوبات المالية والقسرية لذنب لم يكن يوما مسؤولا عنه ولا أخذ رأيه فيه بل هو نفسه طالما كان أول ضحاياه، وهذه القرارات الثلاثة الباقية المتعلقة بالأسرى والمفقودين والممتلكات والآخر بالدعامات الحدودية والثالث بالتعويضات من الممكن وفقا لحراك الكويت الأخير أن تبقي العراق إلى عشر سنوات قادمة تحت وصايا وعقوبات مجلس الأمن، فرغم أنه عبر التعاون الثنائي تم الكشف عن ما يقارب 250 رفاتا لشهيد كويتي فإنه من الممكن أن يبقى هذا القرار ناقص الإيفاء حتى اكتشاف آخر رفات وهو من الاستحالة بمكان، والتعويضات التي دفعها العراق للصندوق المخصص سدد منها 27 مليارا وعليه أن يدفع 25 مليارا أخرى بنسبة 5% من إيراداته النفطية، تصب في خزينة الكويت، مضروبة بمعدل إنتاجه من الممكن أن تستمر حتى عشر سنوات لاحقة، ناهيك عن أن دول نادي باريس ودول العالم الأخرى التي لا يربطها مع العراق لا جوار ولا دين مشترك ولا قومية ولا تاريخ ولا مصير، ولا غيرها من الذي يبدو أنه مجرد شعر عربي، أطفأت ديونها، بل وقدمت مساعدات اقتصادية للعراق أملا في عودته إلى الأسرة الدولية ومعاونته عن الحقب الدكتاتورية والدمار الذي لحق ببنيته التحتية والإفقار الذي طال شعبه. ولكن الذي يرد هنا ومن عيون وموقع كويتي، وله وجاهة، أن هذه الدول لم تُغزَ بلادها وتُنتهك حرماتها ويُقتل أبناؤها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الرغبة في إبقاء العراق مقيدا بالالتزامات الدولية هي ليست غاية بل تنطلق من مخاوف ومن ماضٍ مقلق ظل يسم العلاقة بين البلدين رغم اختلاف العهود والأنظمة، وهذا ما أنتج رأيا عاما محملا بالمرارة وصعب عليه أن يتجاوز الضغائن التي حفرت عميقا، وبالتالي فالسياسيون لا يستطيعون أن يبتعدوا عن مزاج شعبهم، وأن يتصرفوا بما يخالفه، وهذا تحديدا ما هو بادٍ من الموقف الكويتي بمستوياته العدة.

بجانب أن بعد نظر السياسي يجب أن يكون متقدما على جمهوره، وأن يتحرر من أن يكون أسيره وأسير ماضيه، فليس فقط ذلك ضروريا لدواعي أمن واستقرار المنطقة، بل لنتذكر أن هذا النهج هو بمغالاته خطير ويعيدنا ـ ونتمنى أن يكون القياس خاطئا ـ إلى التذكر بأن سياسة الإصرار على معاقبة ألمانيا وفرض شروط الإذعان عليها بعد الحرب العالمية الأولى أنتجت الحرب الثانية وأن هتلر استغل مناخ الإذلال ذلك لطرح آيديولوجية قومية متطرفة.

لكن وبعيدا عن أماني وآمال أخوية قاربت أن تقع في خانة التوسلات، فإن إثبات شهادة حسن السلوك هو ليس بالإبقاء في الحجز الاحتياطي ولسنين، ثم إذا كان للكويت تظلماتها ومخاوفها فللعراق كذلك، فهو يشعر بأن حدوده رسمت وبتعسف من الأمم المتحدة، كأول سابقة دولية، وبما يضمن أمن الكويت ويوقع الحيف عليه، وهناك دعاوى بأن نفطه يسحب ولسنين بطريقة الحفر المائل، ومنفذه البحري الوحيد خنق ما بين كفي الكويت وإيران وأن التعويضات ثبتت عليه بغيابه وكثير منها مبالغ فيه، وبالتالي هو يسعى لنقل هذه الملفات إلى التباحث الثنائي، وهذا ما ترفضه الكويت دائما وحتى حراكها الأخير، يكمل ذاك عقم اللجوء إلى النظام المؤسسي العربي، لذا فلا يعود للعراق من خيار إلا التوجه للقوى الدولية وتحديدا للولايات المتحدة، كون هي من أنتجت ورعت هذه الأوضاع، فعليها قبل الانكفاء أن تنهيها.