من كابوس إلى كابوس أدهى

TT

انتهت عاصفة الحملات الانتخابية المدوّية في لبنان، لكنّ شيئا لن يتغير في الواقع السياسي المأزوم الذي يحكم البلاد منذ أربعة أعوام بالتعطيل ومسلسل الأزمات التي تستنسخ أزمات لا نهاية لها.

ولأن لبنان معلق على مشجب استراتيجيات إقليمية ودولية متصارعة في منطقة الشرق الأوسط والخليج، حيث تبرز في شكل واضح من معبر رفح في جنوب غزة إلى مدينة مشهد في شمال شرق إيران، مرورا ببيروت والعراق، فإن الانتخابات النيابية ليست أكثر من محطة حامية لتجليات الصراع الاستراتيجي بين أميركا التي تدأب على القول بأن لبنان هو «خط الاعتدال في وجه التطرف» الذي يتمثّل بالتحالف الإيراني السوري وامتداداته عبر «حزب الله» وحركة «حماس»، وبين إيران التي تواصل القول بأن لبنان هو الساحة الملائمة لإلحاق الهزيمة بأميركا.

ماذا يعني هذا الكلام؟

بناء على استطلاعات الرأي وحسابات تجمع 14 آذار و8 آذار أيضا، هناك توافق على أن الانتخابات لن تنتهي بتغيير حاسم في موازين القوى التمثيلية، فمن أصل 128 نائبا يشكلون عدد أفراد البرلمان، لن يحصل الفائز سواء كان الأكثرية أو المعارضة، على أكثر من ثلاثة إلى خمسة مقاعد، وهذا يعني أنه لن تتوافر أكثرية راجحة لأي من الطرفين. والترجمة السياسية لمثل هذه النتيجة أن الانتخابات لن تحسم الأزمة، وأن هذه الأزمة ستستمر ما دام الصراع الإقليمي مستمرا.

بكلام بسيط وموجز إن يوم 8 حزيران (يونيو) الذي ستعلن فيه النتائج سيكون مثل يوم 6 حزيران (يونيو) الذي سبق موعد الانتخابات في السابع منه، بما يساعد على الافتراض بأن المثل اللبناني سيكون صحيحا في هذا الصدد عندما يقول: «تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي».

إذا كل هذا الدوي وكل هذا الغبار لن يحسما الواقع التعطيلي في البلاد، وفي انتظار خطة باراك أوباما لتسوية شاملة في المنطقة، تتناول القضية الفلسطينية وحل أزمة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، كما تتناول الموضوع النووي الإيراني وتعالج على ما يفترض مطامح إيران المحورية في المنطقة، يمكن القول بأن لبنان سيخرج من الاستحقاق الانتخابي ليراوح من جديد ابتداء من غد في أزمات مكررة، مثل تشكيل الحكومة الجديدة وبيانها الوزاري، ومثل الحوار الوطني الذي كان حوار طرشان حتى الآن، ومثل الخلاف على التعيينات في الدولة، إضافة طبعا إلى سلسلة طويلة عريضة من الطعون النيابية التي سيغرق فيها المجلس الدستوري لزمن طويل.

أولى المشاكل العويصة ستكون عملية تشكيل الحكومة، وخصوصا وسط الخلاف المستشري حول مسألة الثلث المعطّل. ففي حين تدعو الأكثرية إلى احترام روح الديمقراطية بالقول بأن الأكثرية هي التي تحكم وأن من الممكن إشراك المعارضة لكن من دون إعطائها نسبة الثلث المعطل في الحكومة، وأن في وسع رئيس الجمهورية أن يملك حصة تحفظ التوازن في البلاد بما لا يعطي الأكثرية نسبة الثلثين التي قد تتيح لها الاستئثار ولا يعطي الأقلية نسبة الثلث المعطّل.

في هذا الوقت تصرّ المعارضة على موضوع الثلث المعطّل الذي تعرضه على 14 آذار إذا فازت هي بالأكثرية بينما ترفض 14 آذار المشاركة في الحكم، وتكتفي بلعب دور المعارضة.

المثير في هذا الموضوع أن المعارضة، أي تحالف حزب الله وأمل مع التيار العوني، تحاول فرض تفسير كيفي لمسألة الديمقراطية عندما تواصل الحديث عن الديمقراطية التوافقية فيما لا يوجد توافق عمليا في أي ديمقراطية، لأن التوافق حدّده دستور الطائف بـ14 بندا يفترض توافر ثلثي أعضاء الحكومة لإقرارها، بينما اشتراط التوافق في كل الأمور الأخرى يعني تعطيل البلاد وشل عمل السلطة التنفيذية كما هو حاصل الآن.

ومما سيزيد الأزمة بعد الانتخابات تعقيدا قيام تجمّع 8 آذار بتصعيد الحملة المنهجية على رئيس الجمهورية ميشال سليمان، أولا لأن الجنرال ميشال عون اتهمه بتشجيع قيام كتلة وسطية نيابية تقف إلى جانبه، مع أن سليمان حرص دائما على نفي هذا الأمر، وثانيا وأخيرا لأن انقلابا في المواقف والترشيحات حصل في جبيل، وهي منطقة الرئيس، عشية الانتخابات، عندما انسحب المرشح إميل نوفل وهو ما أسقط حظوظ لائحة عون بالفوز، فاعتبر الانسحاب وكأنه بإيعاز من الرئيس سليمان الذي اتهم استطرادا بالانحياز السافر إلى جانب 14 آذار.

ربما يكون هذا تفصيلا بالنسبة إلى القارئ العربي، لكن من الضروري والجوهري أن يعرف المرء إلى أين وصلت المعارضة في لبنان في محاولة تكبيل الرئيس وتعطيله عبر القول إنه رئيس توافقي.

نعم هو رئيس توافقي لأن 14 آذار و8 منه توافقا على انتخابه في الدوحة. أما بعد انتخابه فقد صار رئيسا للجمهورية مؤتمنا على الدستور وساهرا على الدولة.

المعارضة تريد الرئيس التوافقي مجرد فخامة المراقب الصامت الذي عليه أن يحرس الأزمة لا أن يحاول حلّها. وهذا يعني عمليا تفريغ المقام الرئاسي وتعطيل دور الرئيس الذي يجزم المقربون منه أنه لم يتدخّل قط في الانتخابات وخصوصا في منطقة جبيل.

المسألة الثالثة المقلقة والدقيقة هي الانعكاسات الخارجية على الخريطة السياسية بعد الانتخابات، فعندما تقول أميركا صراحة عبر نائب رئيسها جو بايدن في بيروت، إن واشنطن ستقرّر مساعداتها وموقفها من لبنان في ضوء الحكومة الجديدة وسياستها، فإن هذا يعني بالنسبة إلى كثيرين في لبنان وخارجه أنها ستعامل أي حكومة لبنانية يسيطر عليها «حزب الله» كما تعامل طهران، وهذا قد يشكّل مقتلا للبنان الغارق في مديونية ضخمة.

أما عندما يقول أحمدي نجاد إن نجاح المعارضة في لبنان سيؤدي إلى تعزيز خيار المقاومة في المنطقة، فإنه يعني بالضرورة إحكام ربط لبنان بطوق الممانعة وبسلسلة من «دومينو التغييرات» المتتالية، أي تعميم «الحال الغزاوية» مثلا من القاهرة إلى بغداد مرورا ببيروت وعمان وحتى دول الخليج.

مع هذا الكلام، ليس غريبا أن تتضاعف المخاوف التي تركتها تصريحات بايدن في العاصمة اللبنانية التي قد تستفيق غدا من كابوس الانتخابات لتستأنف المراوحة القاتلة في كابوس الأزمة المفتوحة.