تجليات امرأة غبية

TT

من الغباء أن ينشغل إنسان بالتفكير فيما قد يكون عليه العالم بعد عشرين أو ثلاثين أو أربعين عاما. فيظل يفكر ويفكر ويفكر في التغيير الاجتماعي أو الجيوبوليتيكي ولا شيء يضمن ألا تخذله توقعاته.

يتوقعون أن ترتفع درجات الحرارة بعد خمسين عاما وأن تتغير الأحوال الجوية وسقوط الأمطار فتخضر مناطق وتتصحر أخرى. ولا يمكن أن نخمن وقع تلك التغيرات على الحياة اليومية لملايين الناس في أركان متفرقة من الأرض. ولا يمكن أن نخمن وقع التغييرات على وظائف الجسم والعقل وعلى السلوك الإنساني عامة. ولكن يمكننا أن نتوقع أن يستمر التقدم التكنولوجي ويبهر ويختصر المسافات. فأحدث موديلات الهاتف النقال مثلا أصغر من كف اليد، ولكنه يوصل بينك وبين أي مكان في العالم ويخدمك كحاسب ومذياع وكاميرا تصوير، لكنه عديم الفائدة في الصحراء حيث لا ماء ولا شجر. وعديم الفائدة في مكافحة الجيل الجديد من فيروس الإنفلونزا أو فيروس نقص المناعة.

لا أنشغل كثيرا بالخوف من الزلازل والبراكين والجفاف والتسونامي والفيضانات ربما لأن العالم يستمر. ولا شك أن دوافع بناة الأهرام لم تختلف كثيرا عن دوافع علماء وكالة ناسا في سعيهم المتصل للسيطرة على الطبيعة. بنيت الأهرامات وبقيت شاهدا على حضارة ازدهرت ثم تراجعت واندثرت. وهبط الأمريكي نيل أرمسترونج على سطح القمر، ثم رحل إلى عالم الغيب. والعالم مستمر وفقا لخطة محكمة لا نعرف منها إلا القليل.

أكثر ما يثير خيالي هو أن أفكر أن ابنتي الشابة لن تكون شابة بعد ثلاثين عاما. فكيف تتبدل ملامحها في ذلك المستقبل البعيد؟ في بيتها هل تضطر مثلي إلى الدخول في نزاع مع شركات الغاز والكهرباء بسبب ارتفاع الأسعار؟ أم تزود بيتها بوقود شمسي رخيص؟

سوف يستمر العلماء في تطوير التكنولوجيا ومنها تكنولوجيا الماكينات الذكية. فهل تعيش ابنتي زمن ماكينة ذكية لكل بيت؟ ماكينة تلاعبك الشطرنج بمهارة تفوق مهارة كسباروف؟ وبما أن التوقعات تتجه نحو زيادة عدد سكان الأرض بنسب مهولة فلا بد أن ينتهي ازدحام الشوارع والميادين بالسيارات. وقد تختفي السيارة نهائيا من حياة البشر لتفسح المجال لازدحام الشوارع بالمشاة. وتصبح البيوت مزودة بمهابط للطائرات الصغيرة التي يستخدمها الناس لقضاء المشاوير. وبما أن العالم في زمننا هذا تحول إلى قرية صغيرة بفضل التليفزيون والقمر الصناعي، فألا يحتمل أن تصبح هذه القرية أصغر فأصغر، بحيث تستغني عن الصوت والصورة تفضيلا لنقلة فعلية في أقل من الثانية إلى حيث تريد. فمثلا بدلا من أن تنتظر مشاهدة حلقة جديدة من برنامج أوبرا وينفري أغمض عينيك وابحث عن ماكينتك الذكية فتقول لك أحلام سيادتك أوامر.. سوف تكون مع أوبرا داخل استوديو التصوير قبل أن يرتد إليك طرفك.

حين يحملني الخيال أربعين عاما إلى الأمام يعيدني الواقع إلى الحاضر بقوة. فعالمي لم يتغير كثيرا بعد هبوط أرمسترونج على سطح القمر. وقد قرأت في الستينيات رواية 1984 التي تنبأ كاتبها بأفكار مستقبلية عن الديكتاتوريات الفكرية والسياسية. شاهدت فيلم أوديسيا الفضاء قبل أن تصبح الرحلات إلى الفضاء واقعا. وامتلكت الكمبيوتر والجوال. ومع ذلك أتأثر بنزلات البرد وأوجاع المفاصل أكثر من تأثري بظهور الجيل الجديد من الصواريخ العابرة للقارات.

أليس من الغباء إذن أن أنشغل بالتفكير في عالم المستقبل؟