اقتراع

TT

عندما خرج آخر جندي فرنسي من لبنان العام 1946، كنت في الخامسة من العمر، والحقيقة لم تكن الشاحنات المغادرة تحمل جنودا فرنسيين بل جنودا سنغاليين، استعان بهم الفرنسيون لإحكام قبضتهم على الشعوب الواقعة تحت انتدابهم.

من النافذة، أو من الشرفة، رأينا ذوي القامات المتمادية في الطول، يضعون بنادقهم على ركبهم، ويعتمرون القبعات الكاكية الواسعة المرفوعة استداراتها إلى فوق، ويلقون النظرة الأخيرة على بيروت، بجمالها وأشجارها وحدائقها التي سويت جميعها بالأرض بعد ذهاب المستعمر ومجيء الاستقلال.

بقي المشهد المخيف يرافقني في جميع مراحل العمر. طفل على شرفة وعسكر كثيرون وشاحنات فخمة ومصفحات ودبابات. لكنهم كانوا راحلين. وفي السنوات التالية أخذنا نذهب برفقة الأهل إلى الاستعراض الذي يقدمه الجيش اللبناني أمام المتحف الوطني: فرقة الفرسان الملونة بالذهب وفرقة المشاة المربوطة أقدامها إلى ساعة سويسرية، تتقدمها ماعز ملفوفة بوشاح أحمر، رمز التملق والخفة وتكبد المشاق.

لذلك كان يوم الاستقلال يسمى عيد الاستقلال. للصغار وللكبار. فقد كان الجميع يصفقون ويهتفون. وخصوصا عندما تطل طائرات «الهوكر هانتر»، التي لا تزال في خدمة السلاح الجوي في حين أنها أحيلت، في بريطانيا بلد المصنع، على المتاحف والاستعراضات التذكارية منذ ثلث قرن.

فجأة غاب عيد الاستقلال. وألغي العرض العسكري، ودخلت جيوش أجنبية كثيرة إلى بيروت لمصالحة اللبنانيين. ثم جيوش عربية وأفريقية كثيرة. وكانت تسمى قوات «الردع». أي ردع اللبنانيين عن بعضهم البعض والفصل بين خنادقهم ومجازرهم وسواترهم الترابية. وكان يتم العثور عادة على قرار دولي أو نص عربي يبرر الدخول، ثم الاستغناء عن هذه التفاصيل لأنها مضيعة للوقت.

بعد ظهر الجمعة كنت عائدا إلى بيتي فوجدت الدبابات والملالات والشاحنات وسيارات الجيش تملأ شوارع بيروت وطرق لبنان. ماذا حدث؟ لا شيء. إنهم اللبنانيون الديمقراطيون يذهبون إلى الاقتراع. مجرد إدلاء بصوت. أرعبني المشهد. ما هذا البلد الذي لا يفارقه مشهد الجيوش المحتشدة منذ 1946. لماذا كل اقتراع جبهة ومشروع حرب أهلية؟

أي وجه هذا من وجوه لبنان، جانوس العصر، ذي أجمل الوجوه وأقبحها؟