هوامش حول أسلمة الخطاب الأميركي

TT

كنت أفضل لبنان على أوباما. لبنان الخارج من حرب انتخابية يستحق حديثا، لكن عليّ أن أكتب هذه الكلمة قبل إعلان النتائج، لأسباب تتعلق بالظروف المطبعية الفنية. وهكذا، ظل أوباما حديثا مفروضا، ليس اختيارا مفضَّلا، بعدما أشبعه كتّاب السياسة تحليلا. سأحاول أن لا أثقل على القارئ بتكرار ما قيل وقرأ، إنما حديثي سيكون هوامش وملاحظات على ما أعتبره «أسلمة» للخطاب السياسي الأميركي.

أولا، هالني هذا التصفيق لأوباما، عند كل نقطة وفاصلة. لم يكن أوباما يخطب في شارع جماهيري. كان يخطب تحت قبة أكبر أكاديمية جامعة عربية. كان الحضور نخبة مثقفة، مفروض فيها أن تكون أكثر رصانة. لكن بدا، وكأنها تستمع إلى أوباما، من دون أن تعرف مسبقا شيئا ما عن مواقفه وأفكاره. لا أدري هل الأمية السياسية وصلت أيضا إلى الصفوة العربية، أم هي مصر اللينة. السهلة. السمحة. المضيافة. المجاملة. المبالغة دائما في الحزن المتفجع، أو في السرور والانبساط؟!

قال أوباما بديهيات معروفة عن إنجازات الحضارة العربية، مغلِّفا لها بأغلفة إسلامية.الأهمية الوحيدة لهذه البديهيات كونها تصدر، لأول مرة، عن رئيس أميركي. يبدو أن أوباما المثقف المجامل خدَّرنا بما نحب أن نسمع، لكن في صياغة رفيعة لأدب سياسي، من أجمل ما قيل بالإنجليزية منذ تشرشل، على الرغم من ركاكة الترجمة.

كان التصفيق على قدر المجاملة. سبقتنا الهرولة الخفيفة إلى الاستحسان والحبور، قبل أن ندرك أن هذا الرئيس المتفائل المسكون بـ«سوف» عليه، أولا، أن يبرمج هذا الأدب الرفيع في سياسة محددة، قادر على وضعها موضع التطبيق والتنفيذ.

كانت هذه البديهيات مقدمة لأسلمة خطاب أوباما، خطاب أميركا السياسي الموجه إلى العالم، أسلمة من شأنها أن تكون جرعة مشجعة للمرجعيات الدينية التقليدية في تكثيف رقابتها على المجتمع والثقافة، مستعينة بسيف الدولة. بل هذه الأسلمة ستكون موضع مفاخرة لدى المرجعية الجهادية والتكفيرية: أخيرا، أجبرنا أميركا على الاعتذار. جئنا برئيسها ليسترضي المسلمين. ها نحن نسخر من حديثه عن الحرية الدينية. نواصل قتل «الكفار» في العراق. نعمل على مطاردتهم وتهجيرهم، من لبنان وسورية والأردن ومصر.

كعربي، كنت أفضِّل مزج الأسلمة بالعروبة. أسلمة الخطاب الأميركي تمنح إيران حرية أكبر، في هجمتها باسم الدين على العروبة، بعدما مكنَتها حرب بوش «الصليبية» من اختراق عروبة العراق، وتسليمه إلى نظام مشايع لإيران، وعائد إلى مناصبة السعودية والكويت العداء.

مكر غير خبيث، مكر أوباما انطلى على النخبة المستمعة والمصفِّقة، نخبة لا تعرف أن أوباما المسيحي هو، في الواقع والحقيقة، علماني الثقافة والنزعة. أوباما يكافح مع حزبه في أميركا، ضد محاولة المحافظة البوشية تسييس الكنيسة، و«تديين» المجتمع والمدرسة. أوباما يذهب إلى الكنيسة، لكنه ضد فرض نظرية الخلق الدينية على المدرسة، كبديل لنظرية النشوء والارتقاء الداروينية. أوباما ملتزم بدستور أميركي يرعى حرية دينية لا تغلِّب، نظريا على الأقل، التعصب لدين ضد دين.

إذن، لماذا أسلمة الخطاب السياسي لرئيس أميركي علماني؟ قلت إنه مكر أوباما الذي يريد من الأسلمة، منح نوع من المشروعية الدينية لحربه المشتعلة ضد الجهادية القاعدية والطالبانية في أفغانستان وباكستان، حرب يفترضها حارسة واقية لأمن أميركا. كان من الأفضل توجيه إنفاق أوباما السخي على الحرب إلى التربية والثقافة، لتحرير عقل الأجيال الجديدة في المدرسة هناك، وتطعيمه بالثقافة الإنسانية والعلوم الاجتماعية الحديثة.

عربيا، الخطر الأكبر من الأسلمة الرسمية والظاهرية للخطاب الأميركي، يأتي من «أسلمة» التطبيع مع إسرائيل الذي أشرت إليه هنا في الأسابيع الأخيرة. الذريعة حفز حكومة الاستيطان الجديدة على وقفه، والقبول بمبدأ الدولة الفلسطينية، في مقابل إغراق العالم الإسلامي والعربي المستورد، بالسلع ومنتجات التقنية الصناعية والإلكترونية.

لست ضد أوباما الفلسطيني. غير أنه لم يقدم، إلى الآن، شيئا جديدا يستحق التصفيق «الحاد جدا» عليه. رفضُ أميركا للاستيطان ليس جديدا. رفضه رؤساء أميركيون سابقون، نظريا على الأقل، بمن فيهم بوش الأول والثاني. أوباما يعترف بإسرائيل «وطنا يهوديا» يواسي أطفال إسرائيل، لا أطفال غزة، الخائفين من الصواريخ. يزور معسكرات «المحرقة» مع مرافقه أيلي ديزل إليهودي الناجي من عذابها، من دون أن يتعاطف بكلمة واحدة مع عذاب الفلسطينيين.

كل ما قاله أوباما هو أنه «سيسعى شخصيا» لإحلال السلام. كيف؟ لم يبادر. لم يقدم حلا حاسما. يطالب سلفا بـ «تسويات صعبة»، أي بتنازلات جزئية من الكاسب الإسرائيلي، وخسائر إضافية من المفاوض الفلسطيني! هل سيتدخل شخصيا ومباشرة في المفاوضات؟ هل يحدد نهاية زمنية للعملية التفاوضية؟ ماذا يقصد بالدولة الفلسطينية؟ كيف وأين؟ ماذا عن الحدود. عن السيادة. عن العاصمة. عن اللاجئين..؟.

لا أسيء الظن بأوباما. لا أرفضه تلقائيا كنجاد وحماس وحزب الله وأسامة. مكره ليس خبيثا. إنه مكر المثقفين المثاليين الذين يحاولون أن يظهروا أيضا كسياسيين واقعيين. التحدي الأكبر لأوباما المثقف أن يدخل التاريخ، كرئيس قادر على التغيير، كرئيس فاعل، أكثر مما هو رئيس قائل.

الهامش الأخير في هذا الحديث، هو عنا ولنا نحن العرب. لقد تحدّانا أوباما، بأدب ذكي. دعانا إلى وضع حد لهذه الازدواجية، لهذا التناقض بين ما نقول علنا، وبين ما نفكر ونقول سرا، لا سيما بخصوص القضية الفلسطينية. لكن أوباما الماكر ليس ساذجا، بحيث لا يعرف أن السياسة هي فن المغالطة الضرورية للمساومة، في المفاوضة، أو المقاومة.

بل مسَّ أوباما، بمكر ثقافته العميقة، صميم أزمتنا النفسية: «توجيه اللوم إلى الآخرين، أسهل من أن ننظر إلى أعماقنا». علينا في حسابه: «أن نعامل الناس، مثلما نريد منهم أن يعاملونا». الرد على أوباما ليس صعبا. لقد تعرض العرب لخداع من الغرب دام أكثر من مائة سنة، إلى أن استطاع التمكين لاستعمار استيطاني خلفه وراءه، بحيث لا تبقى هناك ضرورة لإدانة الاستيطان، لأنه لم تبق رقعة من وطن يتسع لدولة عربية أخرى دامت كرامة وكبرياء.

مائة سنة من أكاذيب الكوليرا السياسية، مع الاعتذار لغارسيا ماركيز. دمر الغرب، في حرب النكبة، مشروعا عربيا مستغلا لا ديمقراطيته. ثم تبنى ورعى مشروع أسلمة جهادية استخدمها في حربه الباردة. وها هو أوباما يعيد إنتاج مشروع أسلمة يريد تدمير الجهادية ذاتها!.

يبقى سؤال أوباما لنا صحيحا، بمعنى هل العرب قادرون على نسيان التاريخ الذي كرر نفسه مرارا، بإخراج أعدائهم وغزاتهم من ديارهم وفلسطينهم؟ هل هم مستعدون للتكيف مع الحاضر، والقبول بإسرائيل؟ حقا سؤال محير! حتى الآن، لا يملك الجواب المعلن عنه، سوى الذين يحتكرون السلاح والكلام والنضال والجهاد، مع امتلاكهم العجز الفاضح عن إلحاق الهزيمة بالعدو.