حزب الله مسألة «خارج البحث» إلى إشعار آخر

TT

كان من الطبيعي أن يرتبك قادة حزب الله بعد الانتصار النيابي الواضح لخصومه من قوى 14 آذار في لبنان. ارتباك في الاستيعاب وارتباك في اللغة، والحق ، وحتى يكون المرء صادقا، فكثير ممن تابع الصخب اللبناني طيلة السنتين الأخيرتين كان يعتقد بصعوبة فوز 14 آذار، وأنهم حتى لو فازوا فسيكون ذلك بفارق ضئيل جدا، فلا بأس، إذن، على الأستاذ محمد رعد، رئيس كتلة حزب الله النيابية، ولا على النائب حسن فضل الله، إن هما أدليا بتصريحات يضرب بعضها بعضا، عقب وضوح صورة الانتصار لفريق المستقبل والقوات والكتائب والتقدمي الاشتراكي والمستقلين.

الرجل العابس محمد رعد قال، لوكالة الصحافة الفرنسية، تعليقا على النتائج إنها تؤشر إلى أن: «الأزمة لا تزال تراوح مكانها إلا إذا أرادت (الأكثرية الحالية) أن تغير سلوكها».

وعدد بضعة مبادئ أساسية على الأكثرية أن تلتزم بها لتجاوز الأزمة، فإما أن تعطي الغالبية ضمانات أو الثلث الضامن في الحكومة.

ويحدد رئيس الكتلة النيابية «الإلهية» هذه الضمانات بـ: «الالتزام بأن المقاومة خارج كل بحث وأن السلاح مشروع ضد العدو الصهيوني وأن إسرائيل عدو وأن العميل لإسرائيل ليس أشرف الشرفاء». طبعا النقطتان الأخيرتان مثيرتان للتبسم! لأنه لا يوجد لبناني واحد، سياسي أو غير سياسي، يقول إن عميل إسرائيل شريف فضلا عن أن يكون أشرف الشرفاء، ثم إنه مطلب وعظي أكثر منه حاجة سياسية وضمانة حقيقية.

هناك شيء أكثر متعة في تصريحات السيد رعد، حينما تبرع بتفسير سبب الفوز الكبير لخصوم الحزب الإلهي وهو أنه عزا فوز قوى 14 آذار إلى «العصبية المذهبية والمال السياسي والخطاب الديني الذي شكل رافعة سياسية». حسب نص الخبر الذي نشرته مجموعة المنار نقلا عن وكالة الصحافة الفرنسية، والمنار نفسها نقلت عن نائب الحزب الإلهي، حسن فضل الله، قوله إن نتائج الانتخابات يجب أن لا تلغي التوازنات الحساسة القائمة في البلد وأننا نحكم بالشراكة.. كل هذا كلام عادي ولا نقاش مهما فيه، المهم هو قول فضل الله أو تعليله لعدم التعويل على نتائج هذه الانتخابات في تغيير البنى السياسية القائمة بأن: «البلد قائم على توازن طائفي، معتبرا أن الذي يملك الأكثرية الحقيقية هو الذي يملك الأكثرية في كل الطوائف، لافتا إلى أنه اليوم حسب الأرقام لا يزال العماد ميشال عون لديه الأكثرية المسيحية و«حزب الله» و«أمل» يملكان الأكثرية الشيعية»، متسائلا: «كيف يمكن أن نشكل سلطة في ظل وجود أكثريات طائفية خارج السلطة؟».

ويعود ليقول في نفس المقابلة التلفزيونية التي نقلتها مجموعة المنار أن: «حزب الله يعتبر أن لبنان قائم على التنوع والتعدد وليس فيه أكثرية وأقلية لأن أي طرف غير قادر على الحصول على الأكثرية في كل الطوائف».

احترنا، الآن يقول إن أمل وحزب الله هما الأكثرية داخل الطائفة الشيعية، وهذا صحيح، وكذلك يقول عن عون داخل الطائفة المسيحية، وأظن أن هذا الأمر ليس موضع اتفاق، خصوصا بعد خسائر العونيين الواضحة في الانتخابات، ومن جهة أخرى يقول أخونا فضل الله إن أي طرف غير قادر على الحصول على الأكثرية داخل كل طائفة! ونسأل هل ينطبق هذا على أمل وحزب الله أيضا؟ الواقع يكذب ذلك، ويقول إن القوة الأساسية الممثلة لشيعة لبنان هي حزب الله ثم أمل.

على كل حال ليس هذا هو معقد النقاش، فمعقد الحديث هو التنبيه إلى عدم الانجراف في تظهير هذا الفوز الانتخابي في اتجاه تغيير طبيعة ودور حزب الله المزمنة في لبنان وخارجه، ويمتد الحديث إلى رصد هذه الارتباكات والتناقضات في إطلاق المواقف وتقديم التفسيرات، وإذا كان «الحاج» محمد رعد يهجو الشحن الطائفي والخطاب الديني الذي دفع بمناصري تيار المستقبل السني، كما هي واضحة إشارته، إلى التصويت بكثافة، ويعني هذا الأمر أن الحاج رعد ضد الخطاب الديني والتعبئة ذات الصبغة المذهبية، فكيف يفاخر زميله حسن فضل الله بأن لا أحد قادر على تجاوز الطائفة الشيعية وأن حزب الله هو الأكثرية داخل الطائفة؟ كيف يستطيع حزب الله إدامة هذا التفوق الأكثري داخل الطائفة ما لم يلجأ هو أيضا إلى «الشد» المذهبي على الأقل في الخطاب الداخلي للطائفة، ثم كيف نفسر مضامين خطب أمين عام الحزب الإلهي، وهي حافلة بالإشارات المذهبية الفاقعة والإحالات الساخنة إلى مرجعية الولي الفقيه والوعد بطلائع مباركة المرشد، واليافطات التي تحيط به عند كل خطبة وهي مزركشة بكل العبارات والشعارات المعبأة مذهبيا..

أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس!

أتفق مع الحاج محمد رعد على أن التعبئة المذهبية والطائفية لعبت دورا واضحا في «شد العصب» الجماهيري، حسب إحدى المفردات اللبنانية الجديدة! من كل الأطراف، ولكن تركزت بشكل واضح بين السنة والشيعة، ثم دخل المسيحيون على الحلبة، ساعدهم في ذلك «سخاء» السيد نصر الله في التحدي واللامبالاة حينما يتحدث عن افتخاره بالانتماء لحزب الولي الفقيه، في حين أن الشارع الإسلامي كله مشحون في هذه المرحلة في كل مناطق التماس المذهبي والطائفي من أفغانستان إلى لبنان، حيث يوجد شيعة وسنة، ومن خالطهم، وكان الواجب على حسن نصر الله وكل زعماء الأحزاب الأصولية، أن يكونوا إطفائيي حرائق لا مشعلي نيران.

يجب التنبه هنا إلى أنه ورغم الانتصار لـ14 آذار، فإننا أمام أزمة أخرى في لبنان، ونسأل: ما الذي يجعل الأكثرية هذه المرة، غير الأكثرية في المرة الماضية؟ ألم يكن فريق 14 آذار هو الأكثرية طيلة المرحلة الماضية، حتى وإن كان حسن نصر الله وعون ومن معهم يسمونهم «الأكثرية الوهمية» التي صعدت بفعل الدم الاستثنائي لرفيق الحريري. لكن هذا كان مجرد «هجاء».

لقد أفسد حزب الله ومعه المتفاهم ميشال عون والمتفهم نبيه بري كل شيء، أثناء حكم الأكثرية، من البرلمان إلى الحكومة إلى الشارع. فما الذي سيجعل تجديد الأكثرية لحقيقة أكثريتها متغيرا هذه المرة ومغيرا لسلوك الحزب الإلهي وأتباعه؟

هل يعني تجديد الأكثرية لشرعيتها إعادة طرح السؤال الأساسي وهو: هل حزب الله فوق الدولة؟ الحاج محمد رعد كان واضحا وهو يشرح، أو لنقل يهدد، بأنه ومهما كانت نتائج الانتخابات، حتى لو فازت 14 آذار بأصوات 90% من اللبنانيين (هذه من عندي) فإن سلاح الحزب الإلهي «خارج البحث» كما قال.

حينما ننقد حزب الله ودوره السيئ في تكريس الحالة المذهبية والثقافة المتعصبة وإسهامه في إثارة الاستفزاز الطائفي المضاد، فإننا نفعل ذلك انطلاقا من ذات الهاجس الذي جعلنا، ويجعلنا دوما، ننقد كل التيارات الأصولية السنية مسلحها وأعزلها، فكلها تنتمي إلى ذات «النمط» التفكيري الخلاصي المغلق، وتصمم الإشكاليات الخاطئة لتشخيص علل المجتمعات العربية.

هل نستطيع القول إن ما جرى في لبنان هو يقظة للحس الوطني الجامع؟ يصعب ذلك، لكن يمكن القول إنه «مقدمة» لذلك، لأن العصبية المذهبية المضادة كانت حاضرة بلا شك لدى خصوم فريق حزب الله ومن معه، لكن ما يخفف من وطأة هذه العصبية المضادة هو عدم احتشادها حول «بنية» تنظيمية وأيديولوجية وشبكة مغلقة من الخدمات والرعايات، بشكل يصعب الفكاك منه على غرار «دويلة» حزب الله، ومما يخففها أيضا أنها «ردة فعل» على تغول حزب الله طيلة السنوات الماضية القريبة، وليست مؤسسة على «فعل» واع يتقصد الوصول إلى نموذج دولة طائفية تستبع البقية.

هزم حزب الله انتخابيا، ولكن مسألة السلاح والتعريف والدور تبقى مسائل «خارج البحث» إلى إشعار آخر، وكل اقتراب من هذه المسائل سيثير غضب الإلهيين، لأنهم كالأسد الجريح الآن، إلا إذا نجح الآخرون في خلق نموذج مغر لقاعدة الحزب المحتشدة، على أساس أن لبنان للجميع، ولبنان دولة طبيعية وليست دولة «أنبل الناس وأشرف الناس وأعظم الناس» حسب إغواءات السيد اللذيذة.

[email protected]