زيارة أوباما.. وما بعدها؟!

TT

فعلها باراك أوباما ونفذ واحدا من وعوده أثناء الحملة الانتخابية، بحيث يزور بلدا إسلاميا ويرسل منه رسالة إلى العالم الإسلامي، أو بالأحرى للدقة عالم الدول ذات الأغلبية المسلمة، وذلك قبل مرور عام على وصوله إلى البيت الأبيض. وبوسعه الآن أن يضيف علامة «تنفيذ المهمة» على واحد من قرابة 500 وعد قطعه على نفسه، وواحد من 29 وعدا قرر إعطاءها الأولوية خلال الشهور الأولى من توليه للسلطة. ولكن تنفيذ العهود والوعود ليس مجرد التزامات إزاء الناخبين، أو بحثا عن شعبية من نوع أو آخر، ولكنها في النهاية جزء من «سياسة» كبرى أو استراتيجية عظمى يمكن تلخيصها على الوجه التالي:

وصلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحضيض مع نهاية إدارة الرئيس السابق جورج بوش سواء من حيث الحالة الاقتصادية في الداخل، أو من حيث التأثير الخارجي. ومثل هذه الحالة خطر على أمريكا لأن الحالة مرشحة أكثر للتدهور، وبالتأكيد فإن قدرتها على التأثير في السياسة العالمية سوف يكون آخذا في التآكل؛ ولكن الأمر خطر على العالم أيضا لأن عالما تحت قيادة قوة عظمى متراجعة لا يكون إلا مسرحا للفوضى والمغامرة. وإذا كان لواشنطن أن تخرج من هذه الحالة التعسة، وللعالم أن يتجاوز هذه الحالة البائسة، وتعود أمريكا إلى سابق عهدها كدولة، وتعود «العولمة» والأيام الطيبة الأولى إلى سابق عهدها لا بد من إصلاح اقتصادي جذري وهيكلي في الاقتصاد والرأسمالية الأمريكية في العموم. مثل هذه المهمة تحتاج إلى تخفيض حجم الالتزامات الاستراتيجية الأمريكية في الخارج إلى الحد اللازم والضروري، وذلك متجسد عند أقصى مستويات الخطر في كل من باكستان وأفغانستان حيث تصل الأصولية والراديكالية والإرهاب إلى أقصى درجات الخطورة، ويمكن لهذا الخطر أن يتضاعف إذا ما توسعت إيران بنفوذها الراديكالي أو امتلكت القنبلة الذرية. هنا فإن القدرة الأمريكية العسكرية والاقتصادية والسياسية يجب أن تستخدم عند أقصى درجاتها، وحتى يكون ذلك ممكنا فلا بد من الخروج من العراق، وبناء أكبر تحالف دولي وإسلامي ممكن للتعامل مع هذا مصدر الخطر على أمريكا والعالم. ولكن الدول الإسلامية، والمعتدلة منها خاصة، ومصر والسعودية في مقدمتها، سوف تظل مكبلة اليدين ما لم تكن هناك حركة على مستوى القضية الفلسطينية، وباقي قضايا المنطقة الهامة، ومن ثم فلا بد من فتح صفحة جديدة تنظف الجروح التي تكونت في عصر ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتبني تحالفا عالميا وإقليميا يتيح لأمريكا أن تعيد بناء نفسها، وتحميها في الوقت نفسه من مفاجآت وأخطار أعداء عقدوا العزم على تدميرها ومعها النظام العالمي كله.

مثل هذا التشخيص يجعلنا نفهم حركة أوباما نحو الرياض والقاهرة ووضعها في هذه المكانة والأولوية، وقد جاء أولا إلينا بشخصه، حيث تقوم شخصيته على عدة أبعاد مركبة كل واحد منها شكل رصيدا لما لديه من «كاريزما»، وما لديه من رسالة. فليس كل يوم يأتي إلى البيت الأبيض أمريكي من أصول أفريقية، وفي منطقة تختلط فيها الأجناس السامية والحامية، فإن باراك حسين أوباما يبدو واحدا مألوفا لا تنطبق عليه صورة الإنجليزي أو الفرنسي أو الإيطالي، حيث البشرة البيضاء المحمرة بخمر القوة والتفوق، والعيون الزرقاء التي تعكس وراءها تصورا بوجود دماء زرقاء أيضا. أوباما ليس أيا من ذلك، وهو ليس حتى كارتر أو كلينتون، أو غيره من الرؤساء الطيبين، فهو بتاريخ نشأته وبلوغه وصعوده السريع يحمل قصة مثيرة لواحد عرف الإسلام في قارات ثلاث حتى قبل أن يصل إلى الأرض التي كانت مهد الرسالات السماوية الثلاث، ولكن القضية لم تكن الأديان بقدر ما كانت قصة حياة كان فيها آلام مركبة من زواج وطلاق، وأعراق متنافرة ومتآلفة، وكل ذلك في بيئة كان التمييز العنصري لا يزال واحدا من أهم ملامحها. ولكن أوباما لم يكن لونا أو عرقا أو حياة شخصية فقط، وإنما كان أيضا ابنا مخلصا «للمؤسسة الشرقية» في الولايات المتحدة، وعندما تكون متخرجا من جامعة كولومبيا في نيويورك، وهارفارد في بوسطون، فإن ذلك يمنحك درجة غير عادية من العلم والمعرفة بالعالم وثقافاته المتنوعة، وأكثر من ذلك يمنحك قدرا غير قليل من الاعتزاز والثقة بالنفس التي تقترب من الغرور أو الأرستقراطية الفكرية.

ولكن أهم ما في « المؤسسة الشرقية» بالولايات المتحدة هو ليبراليتها ونظرتها المتفائلة تجاه العالم وإزاء مستقبل أمريكا ومكانتها في العالم، وهي المؤسسة التي قامت في العموم على تراث فرانكلين روزفلت، والصفقة الجدية، والانتصار في الحرب العالمية الثانية، وما تركه جون كنيدي وزوجته جاكلين من فكر وأصالة وجمال. ومع كل ذلك فإن الهزيمة في فيتنام، واغتيال كنيدي قبلها، وهزة حركة الحقوق المدنية، وصعود رونالد ريجان واستيلاء الجمهوريين على السلطة لمدة اثني عشر عاما خلق حتى في عهد بيل كلينتون شكوكا حول قدرة ليبرالية المؤسسة على قيادة أمريكا ومن ورائها العالم. ولم تكن هناك صدفة أن سياسات كلينتون كانت بطريقة أو بأخرى سياسات جمهورية تم وضعها في لفافات ديمقراطية؛ وفي كل الأحوال جاء جورج بوش بعده لكي يصيبها كلها بالإفلاس.

هنا ثانيا تأتي الرسالة على يد باراك أوباما لكي تقول إن بالإمكانية أن تعود الأيام سيرتها الطيبة الأولى، ولكن هذه المرة لن تكون بدون شراكة مع العالم، ربما لأن المسؤولية أكبر من أن تتحملها دولة واحدة، وربما لأن الدولة العظمى الواحدة قد أصبحت منهكة إلى الدرجة التي تحتاج فيها إلى عون الآخرين. وبهذه الطريقة فإنه لا ينبغي أن تكون هناك مفاجأة في الرسالة التي وجهها أوباما من القاهرة ومن قبلها في اسطنبول والرياض، فبدون التعاون مع قيادة العالم الإسلامي المعتدلة فإن مشروعه، أو مشروع مؤسسته، لن يكون له نصيب من النجاح. وببساطة فإن أوباما يحتاجنا بقدر ما نحتاجه، وهو يعلم ذلك ومن ثم لم يجد مشكلة في أن يفعل ما لم يفعله أيٌ من أقرانه حتى الآن حينما راح يطالب إسرائيل بوقف الاستيطان، والتوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، والقبول بحل الدولتين مهما كانت الاحتجاجات والشكوك الإسرائيلية. ومن اللافت للنظر أن ذلك كله حدث دون رد فعل قوي من الجماعات الصهيونية في الولايات المتحدة، وعندما قابلت بعضها أخيرا في رحلة لواشنطن كان واضحا أن هذه الجماعات لا تريد الدخول في معركة سياسية مع رئيس شعبيته كبيرة، وكل ما كانت تطمح إليه هو نقل التركيز في هذه المرحلة من القضية الفلسطينية إلى الخطر الإيراني.

ولكن الواضح هو أن هذه الجماعات فشلت، أو فشلت حتى الآن، وسوف يظل الأمر مرهونا بقدرة أوباما على تحقيق ما يريده، ولا شك أن الجبهة الاقتصادية هي الحاسمة، وهي التي يمكن أن ترفعه إلى مرتبة روزفلت عندما خرج بأمريكا من الكساد الكبير، ولكنها يمكنه أن تخفضه إلى مكانة كارتر الذي حصل على ولاية واحدة لأن التضخم والبطالة وصلت في عهده إلى أعلى درجاتها. ولكن الجبهة العالمية الاستراتيجية لن تقل أهمية، وحتى وقت كتابة هذه السطور فإن باراك أوباما لم يقابل اختباره الاستراتيجي الأول بعد عندما يكون عليه التعامل مع أزمة دولية لم تخطر له على بال.

ومن الجائز أن رحلة أوباما إلى الرياض والقاهرة كان غرضها استباق هذه الأزمة، ومنعها من الحدوث، وحتى الآن فإن الجبهة في غزة هادئة، ولا توجد احتمالات ظاهرة لحرب على الجبهة اللبنانية لأن حماس وحزب الله كليهما مشغولان بالجبهة الداخلية الفلسطينية واللبنانية أكثر من اهتمامهما بالتعامل مع إسرائيل. والواضح أن إسرائيل قد قبلت وقف التعامل العسكري مع احتمالات التسلح النووي الإيراني ولو حتى نهاية العام. كل ذلك يعطي أوباما كما يعطينا فرصة ونافذة لاستخلاص حقوق طال زمان ضياعها، وترتيب أوضاع جديدة تكون أكثر مناسبة مما تعودنا عليه في هذه المنطقة.