بعد خطاب أوباما

TT

يُعتبر الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي في القاهرة التزاما أمام العالم، فضلا عن أنه التعبير الرسمي عن الموقف الذي يتعهد به رئيس الولايات المتحدة أمام شعبه. وهو قبل هذا وذاك خطاب موجه إلى العالم الإسلامي برمته كمبادرة سياسية هي الأولى من نوعها في التاريخ.

تَضمّن الخطاب ما تلتزم به الولايات المتحدة بشأن الأوضاع السائدة في منطقة حساسة من العالم، وكذلك ما تتوقعه هي من العالم الإسلامي في سياق خطة بسطها الرئيس بشفافية. وينتظر إذن في المقابل أن تتعبأ الدول العربية ـ لأنها هي المعنية الرئيسية ـ لكي تتحمل مسؤوليتها ضمن ما يقتضيه إنجاز المشروع العربي للسلام الذي تبنته منذ سنة 2002. ويبقي من جهة أخرى، أن يوحد الفلسطينيون صفوفهم من أجل جعل الأولوية في جدول أعمالهم للتوصل إلى إقامة دولتهم، دون أن تصرفهم عن ذلك أمور أخرى بعيدة عن ذلك، كما هو بارز في الساحة الفلسطينية طيلة السنوات الأخيرة، وحتى هذه الأيام.

وإذا ما تم إحباط هذه الفرصة ـ سواء في ما يخص الرقعة الواسعة للعالم العربي أو الساحة الفلسطينية ـ فلن يرجع ذلك إلى خداع مدبَّر من قِبل الولايات المتحدة، أو إلى دهاء خاص يميز الساسة الإسرائيليين، بل سيكون ذلك راجعا إلى عجز العرب عن إنجاز مشروع السلام، وعجز القيادات الفلسطينيين عن الارتفاع إلى مستوى قضيتهم. والحال أن العالم بأسره يزكّي الطرح الذي عرضه الرئيس أوباما في القاهرة، وهو جدير بأن يُغتنم.

وقد ظهر بمناسبة اللقاءات التي قام بها الرئيس أوباما في أوربا، أن التوافقات الحاصلة بشأن أمهات القضايا العالمية، ومنها الملف الفلسطيني، تفضي بوضوح إلى الاقتناع بأن كلا من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي يوجدان على خط تفكير متطابق، وهذه فرصة نادرة، قلما حدثت في الماضي، رغم النفوذ الكبير للولايات المتحدة والذي مارسته غالبا دون مزاحمة.

ومعلوم أنه بشأن الحرب على العراق كان هناك انقسام في أوربا. إذ وقفت نصف الدول الأوربية مع بوش ووقع مع الرئيس الإسباني أثنار ستة رؤساء ثم وصل العدد إلى عشرة، على ذلك المقال الذي أيد شن الحرب على العراق من أجل تصفية أسلحة الدمار الشامل. وبقيت فرنسا وألمانيا ومعهما قلة من «أوربا العتيقة» في موقع المعارضة أو الحياد تجاه قرارات الرئيس السابق جورج بوش.

الآن هناك إجماع على الخطوط العامة التي طرحها الرئيس الأميركي الحالي، وهي تتلخص في إقامة دولة فلسطينية طبقا لقرارات الشرعية الدولية. وهذا الإجماع ليس نتيجة ضغوط، أو مسايرة للدولة القائدة، بل هو نتيجة تطابق عدة أطراف دولية في التحليل وفي ترتيب الأسبقيات.

إن هناك روحا عامة في أوربا تجنح إلى التفكير في أنه آن الأوان لإنهاء الملف الفلسطيني طبقا لمقتضيات الإنصاف. وعلى عكس ما تبادر إلى الذهن في أوقات كثيرة منذ بداية العام فإن الانشغال الكبير الذي أحدثته الأزمة المالية لن يصرف الرئيس أوباما عن وضع الملف الفلسطيني في مكان الصدارة في جدول أعمال المجموعة الدولية.

إن خطاب القاهرة يفتح صفحة جديدة في السياسة الأميركية والعالمية. وهو يدخل في سياق خطوة لها معنى خاص في التاريخ العالمي المعاصر. ويمكن أن تؤدي هذه الخطوة إلى مسلسل يؤدي إلى طي صفحات مليئة بالصراع، والحال أن هناك ظروفا تسمح بالتطلع إلى التخلي عن السياسات الأحادية التي اشتد أوارها في السنوات الأخيرة. وهذه ظروف أشبه ما تكون بالخط الذي دعا إليه جوزيف نيي في كتابه عن النفوذ المرن الذي عرضنا أطروحته في هذه الصفحات منذ بعض الوقت.

ويمكن القول إن الأزمة الاقتصادية التي اقترنت بفشل المحافظين الجدد هي التي أملت على الأميركيين مراجعة خططهم، ليس فقط في أفق الولاية التشريعية الحالية، بل في أمد متوسط وبعيد، يجب أن تتبلور فيه سياسات مختلفة عن تلك التي اتبعت باقتناع وبتبجح في المدة الأخيرة. وكما كتب المؤرخ بول كينيدي فإن المستقبل الذي بدأ الآن سيتفاعل حتما مع شيئين: الأزمة المالية والإرهاب، وفي الحالتين ستعود الدولة إلى المسرح الذي لم تغادره قط في واقع الأمر.

ويمكن لي أن أقول استطرادا إن التفكير في الوزن الذي يحتله العالم الإسلامي في الأوضاع العالمية كان من العناصر التي كيفت التفكير في هذا المستقبل الذي بدأ الآن. ولربما قاد التفكير في هذا الاتجاه إلى الاقتناع بوضع مخطط لسلوك جديد في الساحة العالمية.

إن العالم الإسلامي هو أكثر جهات العالم التي عانت من جراء الأوضاع التي تمخض عنها عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. ويمكن القول إن النصف الثاني من القرن العشرين هو سجل لسلسلة متوالية من مظاهر عدم الإنصاف الذي لقيته الشعوب الإسلامية. ويتعلق الأمر بما لا يقل عن ربع الإنسانية.

لقد تميز الصراع ضد الاستعمار طيلة ما يقرب من قرنين بالصدام بين القوى الاستعمارية والإسلام بكيفية مباشرة. ففي فترة انتشار الاستعمار في آسيا وإفريقيا قاد المقاومة ضد ذلك الانتشار في الغالب قادة محليون مسلمون. وفي فترة اليقظة التي تُوّجت بإنهاء الاستعمار في شكله القديم كانت الحركة التي قوضت النظام الاستعماري قد قامت بالأسبقية في حظيرة شعوب إسلامية كانت هي الطليعة.

وحينما توصل المجتمع الدولي إلى الاتفاق على قرار تصفية الاستعمار في مستهل عقد الستينيات كان ذلك عنوانا لإنهاء صفحة مليئة بالمعاناة بالنسبة إلى شعوب الجنوب التي يحتل العالم الإسلامي جزءا بارزا منها. ولهذا ظلت القوى التي خسرت مواقعها في غمرة تصفية الاستعمار التقليدي، منطوية على ضغينة تجاه المسلمين، كما قامت الصهيونية بدور كبير في تنمية التحفظ من المسلمين وتصعيد التوتر في المنطقة العربية.

وخلفت هذه الحرب بين الإسلام والقوى الاستعمارية رواسب ظلت متفاعلة مع أوضاع ما بعد الفترة الاستعمارية. و ظلت الشعوب الإسلامية تدفع الثمن الأكبر في معركة المواجهة مع الغرب، سواء قبل أو بعد تصفية الاستعمار.

وظلت المنطقة العربية موبوءة بالمشكلات من جراء التخلف والاضطراب السياسي. وترجع تلك المشكلات بالطبع إلى أسباب ذاتية، ولكن أيضا إلى أسباب التوتر التي دبرتها قوى خارجية. وليس سرا أن كثيرا من عوامل التوتر، سببها عدم الإنصاف الذي لقيته الشعوب العربية.

ولم تكن الشعوب الإسلامية وحدها التي تضررت من تلك الرواسب، بل إن البشرية كلها بكيفية مباشرة قد تضررت جراء التوترات التي حدثت في غمرة كل ذلك، لأن العالم الإسلامي يحتل رقعة فسيحة في الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية، ولأوضاعه ومصالحه وانشغالاته صلة مباشرة مع ما يعتمل في العالم.

وظل سوء التفاهم بين الغرب والعالم الإسلامي، قائما بكيفية متصاعدة، وخصوصا مع العالم العربي الذي شكّل رأس الرمح في الحركة المعادية للاستعمار، سواء في الواجهة الديبلوماسية بالأمم المتحدة، أو بالدعم المادي المباشر للدول المكافحة من أجل حريتها في آسيا وإفريقيا.

وحينما تأتي الولايات المتحدة اليوم وتعلن باسم العالم الغربي رغبتها في سلوك سياسة جدية مع الإسلام قوامها التفاهم والإنصاف، فإن الأمر يتعلق بصوت زعامة العالم الغربي، بل بقوة دولية تمثل أقوى عنفوان عرفته الحضارة الغربية. وتمثل في نفس الوقت مجتمعا له قدرة كبيرة على تصحيح ذاته.