شهادة من النويري

TT

يورد شهاب الدين النويري في كتابه المأثور «نهاية الأرب في فنون الأدب» شهادة طريفة من أحد فقهاء الطفيليين، المولى الفاضل تاج الدين اليماني في تمجيد هذه المهنة الاستجدائية، الذليلة والظريفة. يقول فيها:

«الحمد لله مسهل أوقات اللذات وميسرها، وناظم أسباب الخيرات ومكثرها، وجاعل أسواق الأفراح قائمة على ساق، جابرة لمن ورد إليها بأنواع الإرفاد وأجناس الإرفاق. أحمده على أن أحالنا في منازل السادات أرفع الدرجات، وأحل لنا من الأطعمة الفائقة الطيبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رب المكارم الجسام ومعدن الجسارة والإقدام، الجامع بين فضيلتي الطعان والطعام. وبعد، فإن صناعة التطفيل صناعة موهوبة، وحرفة عند الظرفاء محبوبة، لا يلبس شعارها إلا كل مقدام ولا يرفع علمها إلا من عد في حرفته من الأعلام، ولا يتلو أساطير شهامتها إلا من ارتضع أفاويق الصفاقة، ولا يهتدي لمنار علائها إلا من نزع عن منكبيه رداء الرقاعة والحماقة. وكنت لا يقام سوق وليمة إلا وأنا الساعي إليها، ولا ترفع أعلام مأدبة إلا وكنت الواقف لديها أتخذ الدروب شباكا للاصطياد وحبائل أبلغ بها لذيذ الازدراد. فحيث عبقت روائح الأبازير من أعالي القصور وتمندلت تلك الشوارع بزعفران البرم والقدور، ألقيت عصا المسير على الباب وخلبت بحسن أدبي قلب البواب، فلا دعوة إلا وكنت لها دعوة، ولا وليمة ختان إلا وطلعت على أرجائها مثل الجان، ولا سماط تأنيب إلا وكنت إليه الساعي المنيب، ولا مجمع ضيافة إلا وكنت عليه أشد آفة، ولا عرس مشهود إلا وانتظمت في سلك الشهود. فيحسن بي قول القائل:

لو طبخت قدر بمطمورة

موقدها الشام وأعلى الثغور

وأنت في الصين لوافيتها

يا عالم الغيب بما في القدور

نستشف من شهادته المستفيضة أن التطفل أصبح بالفعل صناعة ومهنة لمن طوى الجوع بطونهم وتفتقت بالأدب قرائحهم وطغت على حيل البواب حيلهم. والظاهر أن القوم أيضا استطابوا أدبهم وحيلهم ومقالبهم فلم يترددوا في إغداقهم بالكرم وحسن الضيافة، تماما مثلما حصل للمهرجين الكلاونس في أبلطة الملوك والأمراء الأوروبيين. أصبحوا نوعا من الندامى. وهو ما عبر عنه في الواقع أحد كرماء القوم، أبو روح ظفر الهروي، حين قال مرحبا بأحد الطفيليين إلى مجلسه:

إن الطفيلي له حرمة

زادت على حرمة ندماني

لأنه جاء ولم أدعه

مبتدأ منه بإحســان

ما كان يعتبره العرب كرما وضيافة في إطار الكرامة تحول في العهد العباسي إلى شحاذة وطفيلية في إطار المذلة والمهانة. ولكنهما أمدتا الأدب العربي، وبصورة خاصة أدب الفكاهة بفصول جميلة وبليغة. قلما نجد كتابا تراثيا ككتاب «الأغاني» و«نهاية الأرب» و«العقد الفريد» بدون شيء منها، بل وكرست كتب كاملة للموضوع، ككتاب الخطيب البغدادي «التطفيل وحكايات الطفيليين ونوادرهم وأخبارهم».

www.kishtainiat.blogspot.com