سعد الحريري والنصر الملغوم

TT

الغضب السني العارم، سبب رئيسي في إخراج المعارضة اللبنانية مهزومة وجريحة من المعركة الانتخابية. قانون الانتخاب الطوائفي المتخلف، سمح للسنة أن يقولوا لا لـ«حزب الله، ولطائفة أخرى تقابلهم وزنا وعددا، وأن يثأروا لمهانتهم في أحداث 7 أيار. فعلوا ذلك في مناطقهم كما في المناطق المسيحية التي يوجدون فيها كأقلية مثل الكورة وزحلة, الدائرتين اللتين قصمتا ظهر البعير. النتيجة فاجأت زعماء السنة أنفسهم، وعلى رأسهم سعد الحريري. التصويت للوائحه كان هائجا وساحقا. لم تأخذ الاستطلاعات بعين الاعتبار هذا الجرح الطائفي عميق الغور، وظنته شبه مكلوم أو على وشك. «حزب الله» لم يُعِر اهتماما للمناطق السنية، صبّ جلّ جهده على مناصريه، وأنصار ميشال عون. أخطأ السيد حسن نصر الله عندما، لم يأبه لشعبية المعارضين السنة المهتزة أصلا، حين وصف يوم غزوة بيروت بأنه «يوم مجيد في تاريخ المقاومة»، عشية انتخابات صعبة. وجه ضربة قاضية، إلى حلفائه السنّة دون مبالاة. خرجت الجماهير السنية أفواجا كمن لدغتهم أفعى، بحثا عن ثأر يبرد قلوبهم. لاذت الطائفة الهائجة بابنها البار سعد الحريري. كان يصعب أن ترى غير المواكب التي تحمل صوره وتهتف باسمه قبل الانتخابات، وكأنما هو أو لا أحد.

اختارت الطائفة إذن ابن شهيدها، ومن تعتبره منقذها، وتوّجته زعيمها، مسلحة إياه بثلث المجلس النيابي، وبكتلة لم يحلم بها حتى والده، وبمكانة سيصعب على حلفائه المسيحيين تجاوزها، ومناوئيه الشيعة تجاهلها. سعد الحريري اليوم هو الزعيم اللبناني رقم 1 مفوضا من قِبل طائفته وأكثر من نصف المسيحيين بقليل، ومن دون أي غطاء شيعي. زعامة عرجاء تحمل في طياتها ألغامها القاتلة، وفرصها الذهبية. محقٌّ وليد جنبلاط حين لا يشعر بنشوة الانتصار التي تنتاب حلفاءه، لأن «الفوز كان لعصبيات معينة في مواجهة عصبيات أخرى». خشية جنبلاط على لبنان، من حرب أهلية تشبه تلك التي أعقبت انتخابات 68، عندما هزم الخط العربي في مواجهة الحلف الثلاثي الموالي لواشنطن، هي أكثر من مشروعة. الكرة في ملعب سعد الحريري اليوم، بعد أن أبدى السيد حسن نصر الله مرونة تتناسب والنتيجة التي حصل عليها. تواضع يحتاج إلى احتضان المنتصرين، وحكمة العقلاء منهم. سبق لسعد الحريري، أن ضيع فرصة تاريخية، بعد استشهاد والده، ونزول اللبنانيين بأطيافهم كافة لمبايعته مع حلفائه. فشلت «14 آذار» يومها في أن تتعالى على المحنة وتطرح خيارات تجمع أكثر مما تفرق. بدا الكيد محركا، وفتنة الانتصار بخروج السوريين، غشاوة أعمت البصائر. اليوم تأتي سعد الحريري فرصة تاريخية ثانية، من حيث لم يكن ينتظر، وفي ظروف أفضل مما سبق. وهو مخير بين أن يبقى حبيس طائفته، ويذبل في مستنقع الأحقاد، أو يخرق زنزانته ولو بدت له فسيحة، إلى فضاء برحابة وطن. لحظة ضعف «حزب الله» يجب أن تثمر. نكء الجراح والعزف على وتر السلاح، والاستمرار في «الزكزكة» و«المكابرة» لن يحصد غير الوبال. التصويت الثأري للطائفة السنية لمرتين متتاليتين بعد وفاة رفيق الحريري 2005 وهذه المرة، قد لا يتكرر لمرة ثالثة. الطائفية العمياء قادرة على إحراق أولادها، هذا خبره سعد الحريري في الشمال اللبناني، ويعرف مخاطره. «14 آذار» ارتكبت أخطاء فادحة. وعليها أن تقوّم أداءها. الوضع الاقتصادي يتهاوى. الفقر لعنة تهدد كل المناطق والطوائف، بمن فيهم أنصار الشيخ سعد الذين يعاني كثير منهم الفاقة. الأمهات بتن وحيدات بعد أن رحلت الشابات إثر الشبان بحثا عن لقمة عيش. هدية 100 دولار في جيب رب عائلة مكسور من مؤسسة الحريري، لن تبني وطنا. إعطاء وجبة غذائية هنا، وعلاج مريض من هناك، لن يشفي بلدا. عشية الانتخابات بكيت وأنا أتجول على مكاتب انتخابية ـ للموالاة والمعارضة ـ ناسها يقتاتون على التعصب، ويتحركون بالدولار، وينامون على جمر الضغينة. ثمة منهم من شهر سكينا في وجهي، ليؤكد لي أنه على استعداد لأن يخرج أحشاء من يقترب من مكتبه الانتخابي. نحن هنا نتحدث عن سنة في ما بينهم يا شيخ سعد. أخبرني الشاب في ما بعد أنه يتيم ويعيش وحيدا مع أخيه، ولا يجدان ما يأكلانه. سيدة من ماكينة المستقبل، أخبرتني أنها كانت تتمنى لو اشتروا صوتها بمائتَي دولار، وأراحوها من العمل على مدار شهر. العصبية هذه المرة هي التي اقترعت، لكن البؤس ليس له طائفة أو دين أو مبدأ. الشيعة في لبنان ليسوا أفضل حالا. معاشات المقاومة، لم تعد كافيه لوقف النزيف. كم مرة سيقترع الشيعة من أجل تحرير أرض، لا مكان فيها لأولادهم، الهاربين من العوز. يعرف سعد الحريري أن خمسين مليار دولار دينا هي تركة مفخخة، لم يتمكن من فك ألغامها طوال أربع سنوات خلت. التحدي الكبير أن لا يتركنا بعد أربع سنوات مع مبلغ مضاعف يقصم ظهر أولادنا وأحفادنا من بعدهم. التحدي الحقيقي، أن تعمل ماكينته الانتخابية بعد أربع سنوات، بأعضاء يتجاوزون السنّة إلى 18 طائفة، ومن دون مقابل مادي. التحدي الذي يواجهه أن يجعل زعامته عابرة للطوائف والمناطق، متمردة على حدود الدوائر الانتخابية الغبية والمهينة التي رسمت، هذه المرة، بأيد ترتجف خوفا وتقطر سُمًّا. قال رفيق الحريري ذات يوم: «ما حدا أكبر من بلده»، وعلى سعد الحريري أن يضيف «صغير اللي بيقبل يبقى على قدّ طائفته».

[email protected]