سعد الحريري والانتخابات وأوضاع المنطقة

TT

دأبت وسائلُ الإعلام اللبنانية التي تُسيطرُ عليها «المعارضة»، طَوالَ الشهور الماضية، على نشر استطلاعاتٍ وأخبارٍ عن الانتصار الذي ستحقّقه «المعارضة» اللبنانية في الانتخابات العتيدة. ولمن لا يعرف؛ فإنّ «المعارضة» في لبنان ليست كأيّ معارضةٍ في العالَم المعاصر. إذ إنها تقعُ في قلب السلطة وقلب الحكومة، ولديها خارج نطاق السلطة التي تشارك فيها، مناطق تسيطر عليها أمنياً وعسكرياً. وطرفاها الرئيسيان: حزب الله والجنرال عون زعيم التيار الوطني الحُرّ. وتأتي تسميتُها لنفسها بالمعارضة من أنها ـ كما تقول ـ تملكُ مشروعاً مختلفاً عن المشروع الذي تسيرُ عليه قوى 14 آذار، التي تملكُ أكثريةً في مجلس النواب منذ العام 2005. وفي تلك الانتخابات التي جرت على أثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري، كان هناك تحالُفٌ رُباعيٌّ يضمُّ إلى حزب الله: حركة أمل، وتيار المستقبل، والحزب التقدمي الاشتراكي. أمّا الجنرال ميشال عون فقد كان خارج ذلك التحالُف، وأفاد من إسلامية التحالُف الرُباعي، فحصل على ما بين الـ50 والـ60 من أصوات المسيحيين، وأنشأ علاقات مع قوى مسيحية صغيرة مثل ميشال المُرّ في منطقة المتن الشمالي، وإيلي سكاف في زحلة، والحزب القومي السوري، والوزير والنائب السابق سليمان فرنجية (الذي خَسِرَ في الانتخابات عام 2005، وعاد الآن إلى البرلمان بكتلةٍ من ثلاثة نواب). وفي العام 2006 تفكَّك التحالُفُ الرُباعي للخلاف حول أربعة موضوعات: التحقيق الدولي في استشهاد الرئيس الحريري والآخرين الذين تكاثف سقوطهم ضحايا للاغتيالات والتفجيرات ـ والعلاقات مع سورية التي اتهمتْها قوى 14 آذار بالمسؤولية السياسية عن الاغتيال بل الاغتيالات ـ وسلاح حزب الله في استقلاليته عن الدولة وقرارها وجيشها وقواها الأمنية ـ وطرائق إدارة الشأن العامّ. وتلا خروج حزب الله وحركة أمل من الحكومة، الاتّجاه من جانب الحزب إلى «التفاهُم» مع الجنرال عون؛ وهو تفاهُمٌ لا يزالُ يقومُ حتى اليوم، وخيضت على أساسه الانتخابات، كما خيضتْ من قبل حرب العام 2006. وقد تلا الحربَ المزيدُ من الانقسام، ولجوء حزب الله وعون وحلفائهما إلى التظاهُر والاعتصام في وسط العاصمة، ثم إقفال مجلس النواب حتى لا يجتمعوا لانتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية. وعندما لم يكْف ذلك عمد حزب الله إلى الدخول لبيروت بالسلاح. ثم حصل اجتماع الدوحة الذي خرج بتهدئةٍ واتّفاقٍ على تشكيل حكومة وحدةٍ وطنية، للمعارضين الثائرين ثلثٌ معطِّلٌ فيها (أي أنهم يملكون حق الفيتو الذي استخدموه بإسراف)، كما باتفاقٍ على قانونٍ جديدٍ للانتخابات على أساس القضاء (الدائرة الصغيرة)، وهو القانونُ الذي جرت على أساسه الانتخابات النيابية يومَ الأَحَد الماضي.

لماذا هذا التقديم والاستطراد؟ لأنّ الأمين العامّ لحزب الله أصرَّ من قبل حرب تموز ومن بعدها على أنّ الأكثرية القائمة في مجلس العام 2005 هي أكثريةٌ مُزوَّرةٌ؛ إذ إنّ الحزب قد خُدِعَ بالتحالُف مع قوى الرابع عشر من آذار في تلك الانتخابات، التي أَمَدَّها فيها بالكثير من المقاعد، ومن ضمنها مقاعدُ منطقة بعبدا والبقاع الغربي. ثم لأنّ الجنرال عون اعتَبر نفسَه الزعيم المسيحيَّ الأَوحدَ، وليس لمسيحيي قوى 14 آذار مشروعية، لأنّ تيار المستقبل وتيار وليد جنبلاط هم الذين أوصلوهم للندوة النيابية، ولم يصلوا بأصوات المسيحيين بعكسه هو! ورغم أنّ الدخول إلى بيروت بالسلاح كان سببه المباشر قرارين اتخذتْهما الحكومة اعتبرهما حزب الله مهدِّدَين لأَمْنه وأَمْن سلاحه؛ فإنّ المطلب الرئيس للحزب والجنرال عون في الدوحة كان القانونَ الجديد للانتخابات، والذي رَجَوا من ورائه أن ينفرد الجنرال عون بأصوات المسيحيين وتمثيلهم ومساعدة الحزب في مناطق الاختلاط المسيحي/ الشيعي (في جزين وبعبدا وجبيل). ولذا فقد كان المؤمَّل ـ كما دأبت وسائلُ إعلام عون وحزب الله وحلفائهما على الترويج ـ أن تحصُلَ «المعارضةُ» على أكثريةٍ مُريحة، تُنهي في نظرها عهد «الأكثرية المزوَّرة»!

إنّ هذا اليقين الزائف الذي صنعتْهُ وسائلُ الإعلام وخطابات الجنرال عون والأمين العام لحزب الله، ولم يصنعْهُ الواقعُ على الأرض، تجاهل ثلاثة أمورٍ أساسية:

ـ الوقائعُ السياسيةُ والأمنيةُ للسنوات الثلاث الماضية، والتي كان منها محاصرة السراي الحكومي، وتعطيل مجلس النواب، وتعطيل العمل الحكومي، وأحداث القتل والتفجير، والاستيلاء على بيروت، ونشر الاضطراب في صيدا، والبقاع الأوسط (منطقة زحلة). وقد أحدث ذلك كُلُّهُ استنفاراً سُنّياً عالي الوتيرة، كان لا بُدَّ أن يظهر في صناديق الاقتراع؛ لأنها الوسيلةُ السلمية والمشروعةُ لدى المواطنين للتعبير عن الغَضَب والقَرَف والتمرد على الخوف والتحرر من الأَسْر.

ـ الانزعاج المسيحي الشديد من الاغتيالات التي نزلت برجالاتهم في السياسة والثقافة والإعلام، ومشروع الجنرال عون النافر والواصل إلى حدود الوهم والعبثية، والتنكُّر العوني للدولة والمؤسَّسات، وعيش الناس وأمنهم واندماجهم الوطني. وأخيراً وليس آخِراً تهديد الرئاسة المارونية بالتصدع والضياع بعد أن تسبَّب حزب الله والجنرال عون في إبقاء كرسي الرئاسة خالياًً لستة أشهُر كما هو معروف.

ـ والقياديةُ البارزةُ لدى النائب سعد الحريري، والتي حوَّلت الاستنفار السُنّيَّ إلى استنفارٍ وطنيٍ شاملٍ، هدفُهُ إنقاذُ الدولة والمؤسَّسات، وإنقاذ السلم الأهلي، وإنقاذ علاقات لبنان العربية والدولية.

إنّ هذه العواملَ الثلاثة والتي كانت حاسمةً في الانتخابات يومَ الأحد الماضي، هي التي جلبت أكثرية الـ 71 نائباً في مقابل الـ57 نائباً لسائر أطراف» المعارضة» العتيدة.

فباستثناء منطقة كسروان، ما حصل الجنرال عون على لوائح كاملة في أي منطقةٍ مسيحيةٍ شبه خالصة. فقد سقط مرشّحاه في البترون. وسقط مرشحوه في الكورة. وسقط مرشَّحوه في دائرة بيروت الأولى. وفي منطقة المتن الشمالي نجح خمسةٌ من مرشحيه بفضل أصوات الأرمن. وكذلك الأمر في مناطق جبيل وجزين وبعبدا؛ إذ نجحوا بالأصوات الشيعية. وانهار هؤلاء تماماً في منطقة البقاع الأَوسط (زحلة). وحدثت مفارقاتٌ كبرى في سائر الدوائر. فحزب الطاشناق الأرمني الذي تفانى في دعم الجنرال في كلّ مكان، ما فاز له غير نائبين وبالتزكية والتوافُق، أما النواب الأرمن الباقون وعددُهُم أربعة؛ فإنهم فازوا مع قوى 14 آذار. وفي حين انجرحت الزعامةُ الأرثوذكسية في الصراع (النائب ميشال المُرّ خصم الجنرال عون في المتن الشمالي)؛ فإنّ أكثرية النواب الأرثوذكس فازت مع قوى 14 آذار وباستثناء النائب أسعد حردان (من الحزب السوري القومي) في منطقة حاصبيا، والذي فاز بالأصوات الشيعية. وانهارت الزعامة الكاثوليكية الرئيسية خارج بيروت (آل السكاف في زحلة) بسبب التحالف مع عون. وما سلم في النهاية من حلفاء الجنرال الأبعدين غير سليمان فرنجية بزغرتا إذ حصل على ثلاثة مقاعد. ويرى بعضُ المراقبين أن فرنجية هو الذي سيخلُف الجنرال في الزعامة المسيحية، ليعيد توحيد الصفوف من حول رئيس الجمهورية إنقاذاً لما يمكن إنقاذُهُ بعد الدمار الطويل الأمد الذي أحدثته خضّات عون في صفوف المسيحيين.

ولا يصحُّ التركيز على الأجزاء المبعثرة للزجاج المهشَّم وحسْب. بل لا بد من رؤية الصورة الكبيرة من على مسافةٍ كافية، وبهذا المعنى فإنّ الصورة لا تبدو قاتمة. فالأمينُ العامُّ لحزب الله سارع إلى استيعاب الموقف، موجِّهاً كلامه إلى الجمهور الشيعي المستنفر، وإلى الجنرال عون. واعترف الأمين العام بالخسارة لا بالهزيمة. وطمأن جمهورَهُ إلى عدم ضياع كلّ شيء. وقال من طرفٍ خفيٍ للجنرال إنه لا بد من تقبُّل النتائج، وإنّ التحدث الآن هو في ملعب الأكثرية (التي ما عادت مزوَّرة طبعاً!) وماذا ستفعلُ تُجاه الوطن، وتُجاه خصومها وشركائها السياسيين.

وفي الصورة الأكبر والأكبر أنَّ الأوضاع في المنطقة تتجه إلى نوعٍ من الاستقرار في ظلّ مبادرة الرئيس الأميركي الجديد للتهدئة والحوار وحلّ المشكلات. فهناك خطةٌ لدى الأميركيين لتسويةٍ في فلسطين. والسوريون عادوا للحديث بقوةٍ عن المفاوضات مع إسرائيل. وخالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس مضى إلى القاهرة وقال بقبول حلّ الدولتين، وبالتأكيد ليس بدون موافقةٍ أو تشجيعٍ من سورية. بل إنّ إيران معروضٌ عليها التفاوُضُ اليومَ قبل الغد. ولا يبدو حتى الآن منفرداً خارج السَرْب غير الحكومة اليمينية في إسرائيل، لكنها لا تستطيعُ البقاءَ هناك طويلاً بالتأكيد.

إنّ رسالة الأمين العامّ للحزب (بعد مقالة الشبيغل وليس بعد الانتخابات فقط)، والصورة المتكونة بالمنطقة؛ كلا الأمرين هما بتصرُّف النائب سعد الحريري، الفائز الأكبر في الانتخابات، زعيم أكبر كتلة في مجلس النواب الجديد (35 نائباً)، والمرشَّح الأول لترؤس الحكومة الجديدة بعد الانتخابات وكما أَظهر الحريري قدراتٍ كبيرةً على الجمع والتحشيد والاستيعاب والتفاوض والتسويات أثناء الإعداد للانتخابات وخلالَها؛ فمن المؤكَّد أن تتجلَّى مهاراتُهُ في تشكيل حكومةٍ وفاقيةٍ لا يكونُ من همِّها بعد الانتصار الكبير إدارة الأزمة؛ بل الخروجُ منها.

كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري يسألُ نفسَه ومحاوريه في الأزمات سؤالاً ثم يُسارعُ للإجابة عليه، والسؤال هو: لماذا يُنشئُ الناسُ دُوَلاً وأنظمة؟ ويجيب: لصون مصالحهم الوطنية والقومية، وتحسين حياة الناس. وكما كان هذان الهدفان جوهر مشروع رفيق الحريري، ودأب الرئيس السنيورة في السنوات الأربع الماضية؛ فسيظلاّن حجر الزاوية في أعمال سعد الحريري؛ وهو الأمر الذي أكّد عليه في سائر كلماته خلال الحملة الانتخابية.