يا له من عالم

TT

هناك اختلاف حول أقدم المهن التي مارسها الإنسان عبر تاريخه، فمنهم من قال: إن (البغاء) هي أقدم مهنة، ومنهم من قال: إن (اللصوصية) هي أقدم مهنة، وأنا أقول بئس المهنتان حتى لو كانتا هما الأقدم، فلا الاتجار بالجسد شرف، ولا السرقة والسطو على مال الآخرين فروسية.

نترك البغاء جانبا فليس هذا وقته، وليس هذا مجاله.

ولكن دعونا نبحر في عالم اللصوصية الرحب قليلا، ويا له من عالم، ولا أكذب عليكم أن نفسي الأمارة بالسوء قد هفتني للسرقة يوما، ولكن لو أن الظروف أرغمتني وحرمتني من لقمة العيش، فلا شك أنني سوف أتمثل بموقف (أبو ذر الغفاري) عندما قال بما معناه: عجبت ممن لا يجد قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه؟! غير أن المشكلة تكمن في ذلك الفقير الضعيف المعدم الجائع المشارف على الهلاك، لو أنه تمثل بتلك المقولة، كيف له أن يخرج على الناس، وهو لا يملك حتى ولا سيفا صدئا من التنك؟! بل إنه حتى لو امتلكه فسرعان ما سوف يجندله الأقوياء دون أن تنوح عليه نائحة.

ومن اعترافاتي التي أفاخر بها بين الناس، أنه سبق لي أن سرقت في صغري من (مقصف) المدرسة، بعض المأكولات، تأسيا (بروبن هود)، الذي يسرق من الأغنياء ليطعم الفقراء، وهذا هو بالضبط ما حصل لسرقتي تلك، إذ إنني اقتسمت ما حصلت عليه مع زميل لي هو أكثر تعاسة مني، وبررت هذا الفعل أمام ضميري يوم ذاك، بأنني حقا قد اقترفت إثما بسرقتي، غير أن ما تفضلت به على زميلي إنما هو (حسنة) تمحو سيئتي التي اقترفتها، طبعا هذا (التبرير) ساذج وخاطئ لم أفطن له إلا متأخرا، فالسرقة هي السرقة، كبيرة كانت أم صغيرة، ومن بعدها حاولت أن أكون أمينا وشريفا، وما زلت أحاول بجهد جهيد، ومشقة بالغة، أن أردع جماح نفسي، والذي دعاني اليوم للكتابة عن هذه (المهنة) ـ التي لا أعتبرها مهنة بقدر ما هي (كارثة) إنسانية ضد الإنسانية، وهجاء لها في ذات الوقت ـ الذي دعاني إلى ذلك ما قرأته عن حادثة تعرضت لها (جين آدمز)، وهي امرأة دأبت على فعل الخير والدعوة للسلام، فقد تعرضت تلك المرأة لمحاولة السرقة، عندما استيقظت في جوف الليل فرأت لصا في حجرتها، ففزع اللص، فنهرته قائلة: عليك التزام الهدوء ولا تحدث ضجة فطفلي نائم في الحجرة المجاورة ولا أريد إزعاجه، فدهش اللص مما سمع، فوثب وفتح النافذة ليقفز منها، فصاحت به: لا، لا تفعل ذلك يا مجنون لأنك سوف تؤذي نفسك، فتعال معي وانزل من السلم بشكل طبيعي، فطاوعها وهو خائف ووجل.

وعندما أوصلته وفتحت له الباب الخارجي، استوقفته قائلة: أعتقد أنك لست بلص محترف، وإنما أنت عاطل عن العمل، وظروفك هي التي أجبرتك على ذلك، ولكن هذا رقم تليفوني واتصل بي وقتما تشاء، وسوف أحاول مساعدتك.

وفي اليوم التالي اتصل بها ليشكرها، فاستدعته في بيتها وأمنت له عملا نجح فيه فيما بعد، ومنه كون ثروة وأكمل دراسته، وكتب تجربته مع تلك المرأة الخيرة الشجاعة التي غيرت مجرى حياته.

لو أنني كنت في مكان مدام (آدمز)، وسمعت جلبة ذلك اللص في غرفة نومي، لتظاهرت بالنوم العميق، و(لدفست) رأسي تحت المخدة، إلى أن ينتهي اللص من مهمته على أكمل وجه، ولن أصحو وأتحرك من فراشي إلا بعد أن أتأكد يقينا من أن اللص قد خرج من منزلي بسلام.

ولتذهب نقودي في (ستين داهية)، المهم هي حياتي، والا أنا غلطان؟!

[email protected]