الأرزة تنزل إلى المدينة

TT

رفض أكثرية السنة في لبنان فكرة لبنان المستقل، أو لبنان اللبناني، وأرادوه دائما جزءا من وحدة أو دولة عربية. وكان رجل الاستقلال، رياض الصلح، قد بذل جهدا عبقريا في إقناع الطائفة السنية وعدد من الزعماء العرب بضرورة قيام دولة مستقلة في لبنان.

ومن قَبِل الفكرة قَبِلها على مضض. وظل مفكرو وسياسيو الطائفة ينادون بالانتماء القومي. وعندما قامت دولة الوحدة بين مصر وسورية أراد الكثيرون الانضمام إليها. وكلما جاء الرئيس جمال عبد الناصر إلى دمشق كان عشرات الآلاف يخرجون من بيروت وطرابلس وصيدا إلى العاصمة السورية هاتفين بحياة الوحدة.

وعندما عظم شأن المقاومة الفلسطينية انتمت بيروت إلى المد العربي من جديد، واتهمت معارضي المقاومة بالانعزالية والخيانة. ونزل الألوف من البيارتة إلى الشوارع تأييدا للكفاح المسلح، منددين بالحكومة والجيش. وفي صيدا أعلن النائب الراحل معروف سعد إقامة «الجمهورية العربية» منشقا عن الجمهورية اللبنانية.

وطوال الحرب الأهلية وحتى خروج أبو عمار من بيروت، كان الخيار القومي معلنا وواضحا ضد الخيار اللبناني. فقد رأى السنة ومجموعة من أحزاب اليسار في لبنان المستقل دولة عدوة تميل بتركيبتها إلى الغرب، ويقيم المسيحيون فيها علاقات خاصة مع فرنسا وبعدها مع أميركا. وكانت كلمة «لبناني» تستخدم أحيانا على مضض وبالكثير من الإكراه.

تغير هذا الواقع القديم والمتجذر مع وصول رفيق الحريري إلى العمل السياسي. فالرجل الذي كان شابا جزءا من «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» رأى إلى ماذا أدت الصراعات والحروب ببلده. واكتشف أكثر من غيره بكثير مدى وحشية الخراب عندما شاهد بيروت وقد تحولت إلى فحم وخراب وعتم وجدران معلقة في الظلام مثل هياكل برلين.

بعد اغتيال رفيق الحريري نزل مئات آلاف السُنة يرفعون علم لبنان، للمرة الأولى. وهتف البعض حتى لفرنسا التي كانت حكرا على الموارنة، فانتزع الحريري العلاقة الخاصة منهم. وفي المعركة الانتخابية الأخيرة رفع سعد الحريري شعار «سماء لبنان» وهي القصيدة التي اعتاد أن يغنيها شعراء لبنان «الانعزاليون». وهذه المرة كان خصومه من انتقد «السماء الزرقاء» وغنائيات البلد، التي كانت مثار هزء وسخرية عند رافضي فكرة الكيان اللبناني. وكان بعضهم يشبه الأرزة بالقنبيط أو الملفوف. لكن «ثورة الأرز» أصبحت شعار 14 آذار ومظلتها.