لكي لا يفشل أوباما كما فشل سابقوه في صنع السلام

TT

بعد حفلة الثناء والتمجيد لخطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما في القاهرة جاء السؤال الأهم: ما معيار مصداقية أوباما وسياسة إدارته في التعامل مع منطقتنا هذه؟ المعيار العملي هو: سياسة أمريكية فاعلة وعادلة ونزيهة تجاه الصراع العربي الإسرائيلي بعامة، وتجاه القضية الفلسطينية بخاصة.. ويتوجب ـ هنا ـ تجريد مفردة «السياسة الأمريكية الفاعلة والعادلة» من مثالية النظرة والتوقع، أي مثالية توقع انحياز الموقف الأمريكي إلى الجانب العربي ضد إسرائيل، فهذا توقع لا يصدر عن امرئ عاقل ذي حسابات سياسية واقعية.

ودون السياسة الأمريكية العادلة العاقلة الفاعلة «عقبة» معروفة لن تنجح إدارة أوباما في شيء: ما لم تقتحمها. فليس صحيحا أن (كل) الرؤساء الأمريكيين لم يبذلوا جهودا لمعالجة القضية الفلسطينية، بل إن كثيرا منهم حاول ذلك. بيد أن الصحيح هو أن «كل» هذه المحاولات قد عُطّلت أو أُجهضت.

فمن المعطّل القائم بعمليات الإجهاض والتفشيل للمحاولات الأمريكية المتتابعة؟ قطعا ليس هو العرب، ولا كاسترو، ولا حيتان البحر الميت!!

إن المعطل ـ باستمرار ـ لكل جهد أمريكي تجاه السلام في المنطقة العربية هو: إسرائيل ومن ورائها الحركة الصهيونية العالمية.

وهذه «حقيقة» سياسية موثقة بعشرات الوثائق والمواقف والأسانيد: ليس أولها ـ ولا آخرها ـ كتاب «عالم من المشكلات» لمؤلفه الأمريكي باتريك تايلر والذي استعرضته جريدة «الشرق الأوسط» في الأسبوع الماضي.. ومما قاله تايلر في كتابه: «إن الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون بعث برسالة إلى الرئيس السوفييتي ـ يومئذ ـ ليونيد بريجنيف يدعوه فيها إلى تعاون أمريكي سوفييتي بهدف إنهاء الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973 واستثمار ظروف لحرب في إبرام تسوية للقضية الفلسطينية».

ولربما تبدلت مسارات المنطقة لو تحقق هذا التعاون؟ بيد أن الفكرة أجهضت.. كيف؟ إن هنري كيسنجر قرر عدم تسليم رسالة رئيسه نيكسون إلى بريجنيف (!!!!!) إلى آخر ما في الدنيا من علامات تعجب.. لماذا اقترف كيسنجر خطيئة خيانة رئيسه وبلاده؟ يقول تايلر: «كانت رسالة نيكسون في غير صالح المشروع الذي يطمح كيسنجر إلى تحقيقه وهو حماية إسرائيل، إذ كانت مبادرة تعاون أمريكي روسي ستدفع كيسنجر إلى مهمة شاقة وخطرة تستدعي ممارسة الضغط على إسرائيل، وهذا ما لا يريد فعله، ولذا تخلص من رسالة بريجنيف.. ووصف تاير كيسنجر بأنه «شخص متهور، وكثير الكذب».

وبسبب «التلاعب الصهيوني» بمصالح الولايات المتحدة ومواقفها في الشرق الأوسط وغيره كتب الكاتب الأمريكي بنيامين فريدمان ـ منذ وقت مبكر ـ كتب يقول: «سوف يكتب تاريخ نشوء الولايات المتحدة الأمريكية وسقوطها بأحرف كبيرة حمراء أسماء سبعة من الرؤساء الأمريكيين خانوا بلادهم لأجل خدمة الصهيونية.. إن الفضائح التي سنوردها في هذا المقال ستوضح لعامة الشعب الأمريكي حقيقة الاستراتيجية السرية غير الأمريكية، بل المعادية لمصالح الولايات المتحدة. وإن تطبيق هذه الاستراتيجية هو المسؤول الأول عن الورطة اليائسة التي تجد الولايات المتحدة نفسها غارقة فيها في منطقة الشرق الأوسط.. والرئيس جونسون هو أول من يعترف بأنه أكثر الرؤساء الأمريكيين توريطا لبلاده في مأزقها اليائس في الشرق الأوسط بسبب العهود والوعود التي قطعها باسم أمريكا ليهودها، منذ أن دخل البيت الأبيض رئيسا للولايات المتحدة".. ويبدو أن جونسون هذا تجاوز كل الحدود في التفريط في أمن بلاده ومصالحها في سبيل خدمة إسرائيل.. مثلا: في قصة ضرب السفينة الأمريكية «ليبرتي» التي قتل وجرح فيها مئات البحارة الأمريكيين.. من غرائب هذه الواقعة الدامية (وهي غرائب موثقة 100%): إن الأسطول السادس الأمريكي تلقى رسالة استغاثة من السفينة المضروبة، وعندئذ أرسل الأسطول طائرات إنقاذ لإنقاذها، لكن وزير الدفاع الأمريكي يومئذ روبرت ماكنمارا أصدر أمرا بإلغاء مهمة طائرات إنقاذ ليبرتي!!!

واللغز هو «تغطية» الجريمة الإسرائيلية في الاعتداء ـ عمدا ـ على السفينة ليبرتي التي توصلت إلى معلومات تقول: إن إسرائيل هي البادئة بحرب 1967

وهكذا.. من أجل حماية إسرائيل، بل حماية عدوانها، يهدر أمن أمريكا ومصالحها، وتسخر رئاستها وقرارها لخدمة الصهيونية.

في ظل هذه الوقائع والحقائق، هل «يقتحم أوباما عقبة تعطيل محاولات السلام ومساراتها»؟

هذا هو الامتحان الحقيقي أمام الرجل!

إنه يقول إن إدارته ستعمل بجد لإحلال السلام في المنطقة، ولقد باشر اتصالاته في هذا المجال، وبعث مبعوثيه إلى المنطقة.

وفي الجانب العربي الفلسطيني، ثمة استعدادات ظاهرة لقبول السلام المبني على الحق والعدل.

فهل يقبل الإسرائيليون بسلام يزيل احتلال عام 1967، ويمكّن الفلسطينيين من إقامة دولة لهم على أرضهم: دولة مستقلة تتمتع بالسيادة التامة وفق ميثاق الأمم المتحدة؟

إن سلوك الإسرائيليين عبر ستين عاما يقول: إن هؤلاء الناس لا يريدون سلاما حقيقيا ينبني عليه أمن واستقرار المنطقة، وإنما يريدون سلاما على «هواهم»، سلاما يقوم على هضم الحقوق العربية، وعلى «التطبيع» مع «كيان غير طبيعي».

والدليل الحاسم على سلوكهم هذا هو: أن عشرات من صيغ التسوية العادلة قد طرحت، في صور شتى، ولكنهم «عطلوها» كلها بلا استثناء.

ومن هنا، اتخذ عقلاء اليهود مواقف سليمة تجاه السلام الصحيح، وهي مواقف «تدين» الخداع الإسرائيلي الذي يفهم السلام على أساس «إبقاء الاحتلال» على ما هو عليه، مع إضافة طلاء لفظي أو سياسي.. لقد أصدر الاتحاد اليهودي الفرنسي لأجل السلام، بيانا استراتيجيا جاء فيه: «إن من استراتيجية السلام العادل: ضمان حقوق الشعب الفلسطيني من خلال تفكيك المستوطنات الصهيونية.. وإزالة الجدار العنصري.. وإطلاق الأسرى.. وإقامة دولة للفلسطينيين مع ضمان حق العودة لهم».. كما يطالب الاتحاد اليهودي الفرنسي بإعادة النظر في قانون حق العودة اليهودي إلى إسرائيل الذي ينص على عودة كل يهودي مهما كان أصله.

لقد طلب الرئيس أوباما: النصح من «الآخرين».. وهذا سلوك عاقل متواضع يُحمد له.. وبناء على هذا الطلب الذي نحسبه جادا، ننصح لأوباما بما يلي:

أ- تكوين رؤية أمريكية للسلام مبنية على مقياس الحق والعدل (الذي كان عماد وثيقة الاستقلال الأمريكية).. ومبنية على القانون الدولي في مفهوم (مقومات الدولة المستقلة ذات السيادة)، وعلى قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.. رؤية أمريكية مبرأة ـ في الوقت نفسه ـ من «الدس» الصهيوني الذي قلما نجا منه قرار أمريكي متعلق بالصراع العربي الإسرائيلي.

ب- هذه الرؤية الأمريكية مكيفة بالمصلحة الأمريكية قبل أي طرف آخر.. ونستشهد ـ هنا ـ بعبارة أوباما نفسه إذ قال: «إن إنصاف الشعب الفلسطيني بإقامة دولة خاصة به، وإن إقامة سلام في منطقة الشرق الأوسط، مصلحة أمريكية عليا يتطلبها أمن الولايات المتحدة القومي».

ج- إن هذه الرؤية الأمريكية المستقلة لا تغني ـ على أهميتها ـ عن إيجاد «آلية أمريكية»: يقظة ونشطة ومتأهبة لإحباط كل تعطيل أو إجهاض صهيوني للحراك الأمريكي. فمن المؤكد أن غلاة الصهيونية سينشطون لتعطيل أي جهد للسلام لا يسير على «هواهم»، ولهم في ذلك آليات عديدة لا نحسبها تخفى على الرئيس أوباما، ولذا فإن جهود هذا الرجل من أجل السلام يتوقف نجاحها على وجود آلية أمريكية تحترف «كنس» العراقيل التي يصطنعها أعداء السلام الحقيقي، وإلا فإن جهود أوباما ستبوء بالخيبة كما باءت من قبل جهود رؤساء أمريكيين آخرين رغبوا في السلام، ولكنهم لم يتفطنوا لما يدور في غرف الإجهاض والتعطيل من أنشطة تخذيلية وإحباطية.

ثم من النصح للرئيس الأمريكي أن نقول له: إن رسالات موسى وعيسى ومحمد التي امتدحتها ـ بحق ـ إنما جاءت لإقامة موازين الحق والعدل بين البشر على هذا الكوكب. ومن مصداقية مدح الرسالات السماوية: العمل بمقتضاها في نصرة المظلوم، وكف الظالم عن ظلمه.