دروس للمسلمين من انتخابات البرلمان الأوروبي

TT

الهزيمة الساحقة التي مني بها حزب العمال الجديد الحاكم في بريطانيا، سواء في انتخابات البلديات المحلية أو في انتخابات برلمان الاتحاد الأوروبي التي جرت قبل ثمانية أيام، فيها عبر للتيارات السياسية والإصلاحيين المهتمين بالتطور الديموقراطي في منطقة لا تزال الحرية السياسية عملة نادرة فيها.

هزيمة حزب حاكم في انتخابات، غير عامة (غير برلمانية) أمر معتاد، بل مرغوب في النظم الديموقراطية كتذكير للحكومة بأن استمرارها مرهون بشرط واحد هو قبول الناس لها.

فالناخب يعاقب الحكومة على تردي الأحوال الاقتصادية بالتصويت للمعارضة في انتخابات لن تؤدي إلى تغيير الحكومة، بل الأحزاب والائتلافات المتحكمة في البلديات المحلية، حيث تلعب القضايا المحلية ـ التي قد لا تكون لها علاقة مباشرة بالحكومة المركزية ـ دورها في النتائج، كالمغالاة في غرامات مخالفات المرور، أو صعوبة وصول الأطفال للمدارس، أو نقل محطة أتوبيس، أو قطع أشجار يحبها الناس.

الجديد هذه المرة أن انتخابات البرلمان الأوروبي أدت إلى نجاح اثنين من الحزب الوطني (البريطاني)، وهو فاشي أسس على نمط الحزب النازي الألماني، ويمكن مقارنته بجماعات ككو كلاكس كلان الأمريكية، وحزب الافريكانا للتفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا سابقا.

الحزب عنصري، يدعو إلى طرد من هم من غير الجنس الأبيض (ناقوس خطر للبريطانيين العرب). وقد تطور عن الجبهة القومية في السبعينات عندما استهدف اليهود بالأكاذيب نفسها التي روجتها بروباغندا الحزب القومي الاشتراكي النازي الألماني في الثلاثينات.

استغل الحزب الوطني قلق الناس من نشاط الإسلامويين بعد أحداث 7/7 ليستهدف مسلمي بريطانيا كمسؤولين عن تدهور أحوال البلاد الاقتصادية والاجتماعية. وحال نشاط المتطرفين من «الابوات» وأئمة الشر، دون كشف الناس زيف مصداقية الحزب في استهداف المسلمين.

نجاح زعيم الحزب، نيقولاس غريفين، الذي فاز بمقعد وزميل له في البرلمان الأوروبي في انتخابات الأسبوع الماضي، بأصوات 15% فقط، لأن نظام القوائم النسبية منحهم فرصة ذهبية ما كانت تتاح لهم في نظام الدوائر البريطاني، فيه عبرة أخرى للعرب المهتمين بتطور الديموقراطية في بلدانهم.

كانت النيابة العامة هنا أحالت غريفين للمحاكمة بتهمة «نشاط يؤدي إلى شغب واضطرابات عنصرية»، بعد أن سجلت الـ«بي بي سي»، سرا، كلمته في لقاء للحزب وصفت الإسلام بـ« ايدولوجية شريرة تدعو إلى العنف وانتهاك حقوق الإنسان واحتقار الأسس الثقافية للمجتمع البريطاني». وكنت وقتها ضمن تيار يمين الوسط البريطاني، ضد فكرة تقديمه للمحكمة حتى لا تسلط الأضواء الإعلامية عليه، ونصحنا بتجاهله لضعف شعبية الحزب الوطني بسبب سخافة أفكاره.

ولأن الحكومة العمالية تتخبط، وتخشى من أقلية غير منتخبة نصبت نفسها «بالعافية» وبالصوت العالي ممثلة للبريطانيين المسلمين، ضغطت على النيابة لتقديمه للمحاكمة.

وكما توقعنا أقنع محامي غريفين المحكمة بأن موكله لم يوجه السباب «إلى شخص يمكن تسميته وتحديد عنوانه لإثبات تضرره من كلمة غريفين» الذي تستر وراء حرية التعبير بأنه انتقد الإسلام كايدولوجية، ولم تؤدِّ الكلمة إلى اضطراب الأمن العام. وخرج أصحابه، وأغلبهم من البلطجية وأصحاب السوابق والفاشيين، يصيحون «يحيا العدل». وظهر غريفين في الشاشات يدعي أنه ضحية اضطهاد حكومة شيوعية تقوض الثقافة والتقاليد البريطانية العريقة وتنهي حرية التعبير مقابل إرضاء المسلمين، إما خوفا من قنابلهم الانتحارية أو لضمان تدفق البترول والتجارة المربحة مع العالم الإسلامي.

نتائج الانتخابات دقت نواقيس الخطر لدى الأحزاب: العمال الحاكم، والمحافظين، والديموقراطيين الليبراليين المعارضة، وبين جمعيات حقوق الإنسان والاتحادات العمالية وأصحاب الضمائر الحرة، فمقعدان للحزب الفاشي في البرلمان الأوروبي يمنح مليوني جنيه لكل منهما، ويقويهم سياسيا بالتنسيق مع نواب فاشيين من بلدان أوروبية أخرى.

رد فعل اليسار البريطاني وحلفائه جاء أكثر سذاجة من النيابة العامة.

فور ارتجال غريفين مؤتمرا صحفيا فوق مساحة الحشائش الخضراء «كوليدج غرين» أمام مقر البرلمان ظهر الثلاثاء، تجمع عشرات اليساريين، ومع هتافهم «أبعدوا القمامة النازية عن شوارعنا»، قذفوا غريفين وصحبه بوابل من البيض الفاسد (وصليب النازي المعقوف مرسوم على كل بيضة)، فأسرع الفاشيست بالهرب والبيض يسيل من ملابسهم.

فيديو الحادثة على الشاشات واليوتيوب، هدية ثمينة من اليساريين ـ بتغليبهم العاطفة على العقل ـ لزعيم حزب بغيض يناقض وجوده مبادئ الخير الإنسانية.

ففي نظر المشاهدين والقراء أصبح غريفين، وهو منتخب ديموقراطيا، «ضحية» لعنف كوكبة غير منتخبة، أي لم يفوضها أحد، منعته من التعبير عن رأيه بحرية، أي أصبح شهيدا في سبيل حرية التعبير لدى الرأي العام، وهو بالضبط ما يتمناه لأن البريطاني دائما ما يتعاطف مع الضحية ضد المعتدي.

أين كان أبطال اليسار الذين نظموا المظاهرة في دقائق (عبر الموبايل وشبكات تويتر) طوال أسابيع الحملة الانتخابية؟ لماذا لم يوظفوا طاقاتهم وإمكانياتهم في زيارة الناخبين وشرح خطورة التصويت لحزب فاشي؟ ولماذا لم ينظموا وسائل انتقال لمراكز التصويت لاصطحاب كبار السن من الأرامل والمتقاعدين بذكرياتهم عن أهوال الحرب العالمية الثانية عندما دكت اللوفتوافا النازية (والحزب الوطني حفيدها) منازلهم، وساعدتهم على شرح الأيام الصعبة للشباب؟

فانخفاض نسبة المصوتين (أقل من الثلث) كانت سببا رئيسيا في نجاح الفاشيين.

محاولة الإعلام اليساري (خاصة الـ«بي بي سي») كشف فاشية الحزب الوطني حققت نتائج معاكسة بالترويج الدعائي للحزب قبل الانتخابات (وكنا كصحفيين تجاهلنا الجبهة القومية عند ظهورها في السبعينات فلم تحصل على أصوات تذكر).

قبل وبعد الانتخابات تركزت التغطية، وأغلبها في الـ«بي بي سي» اليسارية النزعة، على نقطة واحدة فقط، وهي الهجرة من زاوية عنصرية، حيث دعا الحزب الوطني إلى ترحيل المهاجرين من أصول غير بيضاء، وعلى إنكارهم وقوع الهلوكوست كخرافة اخترعها اليهود الذين يسيطرون على الاقتصاد.

تجاهل الإعلام اليساري مناقشة قضية أساسية دفعت بـ15% من الأصوات للفاشيست، والتهمة أن الإعلام لا يريد إثارة حساسية مسلمين (رغم أنهم أقلية لا تمثل إلا نفسها) يتظاهرون لأتفه الأسباب ضد مسرحية لم يشاهدوها أو كتاب لن يقرأه إلا عدد محدود، مما يثير موجة الاستياء العامة لدى الشعب البريطاني مما يسمى ظواهر الثقافة الدخيلة عليه.

مثل إصرار إمام مسجد باكستاني في مدينة أكسفورد على بث الأذان خمس مرات (بما فيها الفجر) من مكبر صوت في منطقة معظم سكانها غير مسلمين.

وهذه القضايا لا شك استغلها الفاشيون في الدعاية كحراس على الثقافة الوطنية، كما لعب قلق الطبقة العاملة البريطانية من استيلاء المهاجرين على وظائفهم بأجور أقل، دوره مع رؤيتهم الضغوط التي يشكلها المهاجرون على الخدمات العامة من رعاية صحية وإسكان وتعليم ومواصلات، تثير حنق السكان البريطانيين الأصليين.