إنهاء العزلة المفروضة على إيران

TT

تشهد الفترة الحالية تكون إجماع حول فكرة أن الحرب ضد إيران باتت أمرا محتوما. وأسفر فشل السنوات الثماني الماضية التي اتسمت بغياب الجهود الدبلوماسية عن تحقق أسوأ السيناريوهات المحتملة، والذي تبعا له تجاوزت إيران، حسبما يتفق معظم الخبراء، نقطة اللاعودة في مساعيها لبناء قدراتها الفنية اللازمة لصنع أسلحة نووية دون انتهاك التزاماتها القانونية طبقا لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.

وللتأكد من ذلك، عليك النظر إلى الاستعراض اللافت للانتباه للموقف العربي والإسرائيلي داخل البيت الأبيض، حيث عكست الرسالة التي حملها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو معه حول التهديدات الناشئة عن طهران لوجود دول في المنطقة أصداء تحذيرات عربية من أن الخطر الفارسي تلوح نذره في الأفق. والواضح أن حقبة الاهتمام بفلسطين ولت، وحل محلها التركيز على إيران ـ ويدور الجدال الأكبر حول ما إذا كان الطريق إلى طهران يمر عبر القدس، أم العكس صحيح.

والواضح أن إيران، التي تشكل قوة صاعدة لها سجل في رعاية «حزب الله» و«حماس» كوكلاء تمارس من خلالهما النفوذ، تستغل كافة الأسلحة المتاحة أمامها ـ سواء متكافئة أو غير متكافئة ـ من أجل إحداث خلل بالنظام القائم بالمنطقة. ولا شك أن التصدي لهذا التحدي دون اللجوء إلى الحرب يتطلب تحولا دبلوماسيا هائلا يمتد إلى ما أبعد من مجرد التعاون.

ومن خلال التركيز على وسائل الصعود الإيراني ـ المتمثلة في سعيها وراء بناء قدرات لإنتاج أسلحة نووية ودعمها لـ«حزب الله» و«حماس» ـ نتجنب الأسئلة الحيوية المتعلقة بالغايات التي تسعى طهران وراءها. وبتركيزنا على القدرات بدلا من النيات، نهدر فرصة على درجة بالغة من الأهمية لتحدي النظام الإيراني على الدخول في نقاش حقيقي حول المكانة المشروعة لطهران داخل هيكل أمني إقليمي والسبل غير المشروعة التي تنتهجها البلاد لتحقيق هذه المكانة، أي أن الأمر برمته لا صلة له بالقنبلة النووية.

ومع ذلك، نجد أن منع طهران من امتلاك أسلحة نووية اكتسب مكانة بارزة على نحو خطير كأحد أهداف الأمن القومي بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها. ولا تولي الولايات المتحدة في خضم ذلك اهتماما باحتمالية أن الحكومة الإسرائيلية غير الراغبة في إقرار حل الدولتين ترمي لتشتيت أنظار العالم بعيدا عن غزة.

والواضح أن الولايات المتحدة لا تزال أسيرة للفكر المميز لحقبة الحرب الباردة والذي استمر طيلة ثلاثة عقود وذلك فيما يتصل بإيران على وجه التحديد. ولا تحمل سياسات الإدارة الأميركية الجديدة أية مؤشرات على الشروع في تحول جوهري على النحو المطلوب.

وفي الوقت الذي يبدو محتملا أن تقاوم إدارة أوباما الضغوط قصيرة الأمد لاتخاذ عمل عسكري ضد إيران (خاصة لانشغالها باستشراء نفوذ جماعة «طالبان» في باكستان، جارة إيران الشرقية المسلحة نوويا بالفعل)، فإن ابتكاراتها الخطابية ومضيها قدما في سياساتها الراهنة من غير المحتمل أن يفرز نتيجة مغايرة.

وينذر ذلك بحرب قادمة: فعلى امتداد الشهور القليلة المقبلة، من المحتمل أن تصدر واشنطن عددا من المؤشرات الدبلوماسية لرغبتها في التقارب مع طهران، بينما تقابلها الأخيرة بشك ومحاولات إرجاء وتعطيل. وتظهر معلومات استخباراتية جديدة مثيرة للقلق حول برامج نووية سرية محتملة، متزامنة مع تصعيد لنشاطات «حماس» و«حزب الله». وستخلص الإدارة الأميركية إلى أن يدها الممدودة بالسلام قوبلت بالرفض، وعليه، تسعى لكسب تأييد الأمم المتحدة لفرض عقوبات قاسية على إيران. ومع رفض روسيا والصين الانضمام إلى أي نظام حقيقي للعقوبات ضد إيران، سيؤكد أنصار العمل العسكري أنه جرى استنفاد كافة الخيارات الأخرى، وبذلك أصبحت الحرب أمرا محتوما. ولتجنب هذه الكارثة، علينا تبديل نقطة البداية التي تنطلق منها جهود التعاون ـ بعيدا عن القنبلة النووية ورعاية إيران «حزب الله» و«حماس» ـ والتخلي عن فكرة أن الاعتماد على «عصي وجزر» أكبر سيغير الحسابات الاستراتيجية لطهران. وينبغي أن يتمثل هدفنا في خلق بيئة جيواستراتيجية جديدة بمنطقة الخليج، تتضاءل في إطارها دوافع إيران للسعي لكسب المكانة المرتبطة بامتلاك الأسلحة النووية، وتكفل البيئة الجديدة عدم اندلاع سلسلة من الصراعات بالمنطقة حال إصرار إيران على امتلاك هذه الأسلحة. وبدلا من السماح لمجموعة من القدرات التي ليس بوسعنا السيطرة عليها بتقييد أيدينا، ينبغي أن نسعى لإقرار إطار عمل جديد للنيات فيما يخص جهودنا الدبلوماسية مع إيران.

ويعني ذلك الدخول في محادثات ثنائية مباشرة دون شروط مسبقة، تركز على العديد من مجالات الاهتمام المشترك ذات الأهمية الملحة، بدءا بباكستان وأفغانستان والعراق. ومن خلال بناء الثقة عبر الجهود المشتركة على أصعدة تلتقي فيها المصالح الأميركية والإيرانية على نحو كبير، يمكننا الانتقال نحو الاعتراف الموضوعي بمصالح بعضنا البعض المشروعة.

ويتطلب ذلك من الجانب الإيراني تقبل الدور الإقليمي لواشنطن، والاتفاق على أن يسعى «حزب الله» و«حماس» خلف مصالحهما عبر السبل السياسية، وليس العسكرية، والعودة إلى سياسة طهران السابقة القائمة على مساندة أي اتفاق يتوصل إليه الفلسطينيون مع إسرائيل. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فيستلزم الأمر الاعتراف بمصادر القلق الاستراتيجي لدى طهران ـ وهي الحرب التي امتدت 10 أعوام مع العراق، والقوى النووية التي تحيطها، بما فيها باكستان والهند وروسيا وإسرائيل والولايات المتحدة، وتاريخ العداء القائم بينها وبين أكبر قوة في العالم على مدار 30 عاما. وبناء على ذلك، قد ينشأ تقبل دور إيراني مشروع في هيكل أمني بمنطقة الخليج تتولى واشنطن دور الوساطة فيه ويضم الدول العربية المجاورة لإيران، وبمرور الوقت، إعادة دمج طهران في المجتمع الدولي ورفع العقوبات عنها ـ وجميعها مشروطة بتوفير ضمانات أمنية صريحة لحلفاء واشنطن في المنطقة.

والمؤكد أن تحولا بمثل هذه الضخامة في سياسة الأمن القومي يتطلب قفزة كبيرة في مستوى الثقة. والواضح أن النهج البرغماتي ـ رغم كونه نهجا محمودا في أعقاب السنوات الثماني الماضية ـ له حدوده، على الصعيدين الأخلاقي والفلسفي. وفي حالة إيران، يفضي بنا النهج البرغماتي إلى طريق استراتيجي مسدود. ولذلك، فإن التحول الجوهري باتجاه سياسة تعايش قائم على الحسابات وحده قادر على ضمان حماية مصالحنا وأمن حلفائنا على الأمد البعيد، علاوة على كونه الأمل الأكبر للشعب الإيراني في نضاله من أجل مجتمع حديث وحر ومفتوح.

لقد خاضت إدارة بوش معركة قدرات مع طهران وخسرتها، لكن معركة النيات لا يزال النصر فيها ممكنا.

* المساعد الخاص للأمين العام لأمم المتحدة كوفي أنان، بين عامي 1997 و2003، وزميل استشاري في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»