خواطر انتخابية: أوان انسحاب الأصولية الشيعية

TT

عند نشر هذه المقالة تكون نتائج الانتخابات الإيرانية قد أخذت في التبلور إن لم تكن قد حسمت، وبغض النظر عن كل ما يقوله البعض، لا سيما أولئك الذين يهيمن عليهم الخوف من الآخر ولا يجيدون التنفس دون النفخ في نار الكراهية، فإن نتائج تلك الانتخابات ستكون مهمة جدا بشأن مستقبل المنطقة واتجاهات الصراع واحتمالات التسوية والتعايش. صحيح أن جميع المرشحين هم أبناء النظام، لكن من الصحيح أيضا أن للنظام وجوها مختلفة، وأن المرحلة المقبلة قد تشهد استمرار سطوة الوجه المتشدد، الأكثر أصولية، والأكثر آيديولوجية، أو صعود وجه معتدل أكثر براغماتية وأقل أدلجة. هذا التغيير في الوجوه قد يكون وحده كفيلا بإبقاء أو إنهاء مناخ التصعيد الإقليمي واحتمالات المواجهة العسكرية. هذه الانتخابات تأتي بعد أسبوع واحد من إعلان نتائج الانتخابات اللبنانية، التي بغض النظر عن حقيقة أنها كرست واقعيا الاستقطاب القائم وفق أوزان ما قبل الانتخابات، فإنها خلقت بيئة سيكولوجية للمراجعة والتغيير.

من اللافت أن منطقتنا صارت، وعلى غير عادتها، تترقب نتائج الانتخابات، وأصبحت صناديق الاقتراع لاعبا سياسيا داخليا وإقليميا، ولكن من اللافت أيضا أن كل انتخابات تجري في ظل اصطفافات إقليمية وتخندقات وتحضيرات لصراع مقبل، وأن خطورتها تقترن في أنها تعبر عن حرب وكالة بطريقة سلمية، وأنها لا سيما في الحالتين اللبنانية والعراقية تعيد طرح عقدة الموازنة بين الانقسام السياسي والانقسام الاثنو ـ طائفي، فهناك دائما شرعية انتخابية لصالح حكم الأغلبية الفائزة، وشرعية توافقية لصالح تمثيل مختلف المكونات الاجتماعية، ولب الصراع هو في إحداث موازنة بين الغايتين لا تؤدي بالنتيجة إلى خلق حكومة غير فاعلة. هناك أمل في أن الانتخابات العراقية المقبلة ستشهد تنافسا بين تكتلات عابرة للطوائف، إلا أن الأمل ضعيف في أن يكون هذا العبور قادرا تماما على تحييد الهواجس الطائفية وإبعاد الخطاب الطائفي عن الحلبة، كما أن من المستبعد نشوء تكتلات حقيقية عابرة للقومية، الأمر الذي سيبقي ذات الإشكالية قائمة وإن بحدة أقل.

الانتخابات اللبنانية أفرزت نتيجة مهمة تتمثل في خسارة حزب الله غير المتوقعة على الأقل قياسا لما أشارت إليه الاستطلاعات قبل الانتخابات، ومع هذه الخسارة صار على حزب الله ومختلف تيارات الإسلام السياسي الشيعي القيام بمراجعة حقيقية. هذه المراجعة ستظل مرهونة إلى حد كبير بنتيجة الانتخابات الإيرانية، لكنها لا بد أن تحدث على الأقل في حدود ما تعنيه الخسارة ضمن إطار الحراك الوطني اللبناني. من الخطأ التصور أن خسارة حزب الله هي خسارة للشيعة، فالحقيقة أن الحزب أعاد تأكيد سيادته في المناطق الشيعية، لكنها إعادة تأكيد تحصل في مواجهة توجس الشركاء الآخرين. في بلد متعدد الطوائف كلبنان، هناك حاجة إلى أن تكسب الآخر بقدر الحاجة إلى أن تكسب جمهورك، فأي تطرف داخل حيزك الاجتماعي سينتج تطرفا داخل الحيز الآخر، وستكون النتيجة بلدا مهيئا للانقسام أو الحرب الأهلية. لقد ظهرت الأصولية الشيعية اندراجا في إطار صعود الآيديولوجية الإسلامية إثر أفول الآيديولوجيات القومية واليسارية والارتداد ضد العلمنة الاجتماعية، وهي ظهرت أيضا كتعبير عن حراك الأقليات «أو الأغلبيات المحكومة من أقليات» لمقاومة التهميش السياسي والاجتماعي، وكانت الثورة الإيرانية المحرك الأساسي، ليس فقط من حيث إنها قدمت نموذجا لقدرة شعوب المنطقة على إسقاط ديكتاتور مدعوم من الغرب وإقامة نظام معادٍ كليا للغرب، بل ومن حيث إنها رمزت إلى إمكانية تحريك الفضاءات الاجتماعية الشيعية لتجاوز تهميشها، وقدمت صيغة آيديولوجية سياسية «ولاية الفقيه» لتكون بمثابة بديل قادر على استنطاق العقيدة الشيعية وتحويلها من موقف الانتظار للمخلص إلى موقف الفعل «الممهد له».

الذي حصل أن الآيديولوجية الأصولية الشيعية كأي آيديولوجية أخرى أخذت تفقد الكثير من بريقها، إما بسبب تجربة السلطة التي أدت إلى أن تلصق بها كل مساوئ السلطة الجديدة، أو بسبب اصطدامها بالأصولية السنية الذي سحب عنها الكثير من الجاذبية كـ«حركة إسلامية»، وكرس مظهرها «كحركة شيعية»، مما خلق استقطابا مقابلا أخذ «يشرعن» و«ينظر» إلى شيطنة الشيعة، الفخ الذي سقط فيه حتى كتاب يفترض أنهم علمانيين. ارتباط الأصولية الشيعية بفكرة ولاية الفقيه جعل من شبه المحال فك الحركات الشيعية العربية عن المحور الإيراني، وصار يقدم سببا آخر لتحويل الشيعة في نظر البعض إلى وكلاء لخصم قومي. في ظل هذا المناخ ما كان بإمكان حزب الله أن يربح المواجهة، بل وصار لزاما عليه أن يعيد فهمها عبر إدراك أن ليس من مصلحة شيعة لبنان أن يكونوا أسرى الصراع الإقليمي ـ الدولي بما يعزلهم عن محيطهم الوطني، وأن الزخم الآيديولوجي المعبأ بخطاب الصراع والمواجهة، وبنذر الحرب المقبلة، صار يهدد قدرة الوطن على التحمل، وسيهدد لاحقا قدرة الشيعة على القبول بأن يكونوا وقوده. بعد كل شيء، الهم الحياتي يغلب على العواطف السياسية، والفخر بالمقاومة هو انفعال وقتي يتلاشى مع ضغط الحياة، والإصرار على إبقاء «الشيعي» مقاوما سينتهي إلى تعطيله «إنسانا»، سيجعل منه ماكينة حرب حتى وهو يجالس شريكه في الوطن ليدخن الأركيلة.

حتى في إيران، يبدو أن العامل الطبقي لا الآيديولوجي البحت هو الذي سيحسم الصراع، فالطبقة الوسطى المتعلمة في طهران والمدن الكبرى لم تعد راغبة في استمرار هيمنة الرؤية الأصولية المتشددة وما تعنيه من خنق للحريات وردم للفاصل بين العام والشخصي. سيشارك شباب المدن وطلبة الجامعات بكثافة لإيقاف عزلة إيران ولدعم المزيد من الانفتاح، في المقابل سيراهن أحمدي نجاد على فقراء الأطراف، وما أكثرهم، فهو رجلهم القادم لمساعدتهم كرحمة من الله. هو البسيط الذي يصر على ارتداء بدلة لا يتجاوز سعرها الخمسة دولارات، ويسكن في بيت بسيط، وما زال يذهب إلى مكتبه حاملا غداءه الذي تعده له زوجته، سيصوت الجميع من أجل لقمتهم ومعيشتهم وحريتهم الشخصية، لكن أصواتهم ستكون رغما عنهم إيذانا ببداية جديدة.. أو بنهاية ما..