من الأعراس للمآتم

TT

رغم كل ما تدفق من ثروات النفط وارتفاع مستوى المعيشة فإن مهنة التطفيل لم تمت، بل على العكس ازدهرت بتفاقم البون بين الفقراء والأغنياء. ظهرت في الواقع أنواع جديدة منها، مثل مأكلات المؤتمرات والندوات الفكرية والحفلات الدبلوماسية، واجتماعات الأحزاب والمنظمات السياسية والخيرية، ونحو ذلك.

بما تدفق من مال على البعض، أصبحت حفلات العرس استعراضا رهيبا للثروة والجاه. غصت فنادق الخمس نجوم والفلل الشامخة بحفلات الرقص والقصف والشرب وكل ما يجسم البذخ الخيالي. وبالطبع تفنن وتبارى الطباخون والمجهزون ومديرو الفنادق بتجهيز أعجب الأكلات. وفيما وقف الشحاذون والمعدمون متسترين وراء جدران وسياجات هذه الأبنية الشامخة انتظارا لما سيلقى منها في القمامة من فضلات الأكل، تفتقت أذهان الطفيلية من أبناء وبنات الطبقة المتوسطة، شعرائها وأدبائها وأساتذتها وكتابها، عن الاهتداء لشتى الذرائع للتسلل لهذه الحفلات والتزود بما ناءت به الموائد والمقاصف من أطايب الأكل والشراب.

لم يتوقفوا دائما في مسعاهم، فالأعراس أصبحت اليوم مقيدة بالدعوات والمقاعد مسماة بالأسماء. من لم يدع لن يجد لنفسه مقعدا يجلس عليه ويأكل. وعلى الباب بواب وشرطي يدقق في البطاقات.

من لم يوفق في اقتحام عرس يتوجه لاقتحام مأتم. ينحدر من الكوميديا إلى التراجيديا. فللمآتم والعزاءات وما نسميه في العراق بالفاتحات تميزها على الأعراس والطهورات (حفلات الختان).. إنها ليست محددة بدعوات. ولا أحد يستطيع أن يمنع مستطرقا في الدخول والاستماع لتلاوة القرآن الكريم وتقديم التعازي وقراءة الفاتحة على روح الميت. «السلام عليكم» يقول وينضم للجالسين. يرفع يديه إلى السماء ويهتف بصوت درامائي «الفاتحة» فيرفع الجميع أيديهم ويتلون معه السورة الكريمة. ثم يمسح وجهه بنور الإسلام. يقول له الحاضرون: «الله بالخير». فيرد على التحية بمثلها. يخرج مسبحته ويبدأ بعد خرزاتها وهو يستمع بخشوع للتلاوة الكريمة، يهز رأسه متأثرا بين الفينة والفينة وكأنه هو المنكوب بالوفاة ولا أحد غيره. يظل يردد مرة تلو الأخرى، «لا حول ولا قوة إلا بالله»، وذلك حتى يسمع النداء الكريم من أهل الفقيد «تفضلوا يا إخوان للعشا» يضع المسبحة في جيبه ويسرع قبل غيره ليتصدر المائدة أمام صينية الدولمة بحذق الطفيلي الممتهن.

هناك الآن شريحة كاملة من الناس يعيشون كليا على موائد المآتم. ما ان يستيقظوا من نومهم حتى يفتحوا صفحة الوفيات من الجريدة اليومية. من مات يوم أمس وتشيع جنازته اليوم وتقام الفاتحة على روحه مساء الليلة. يدقق فيها كما لو كانت قائمة مطعم. فبيت فلان باميتهم جيدة ولكنهم لا يحسنون طبخ التمن. وآل فلان معروفون بالكبة ولكنهم لا يقدمون العنبة معها. وهكذا حتى يختار أين يأكل عشاءه هذا اليوم ويقدم التعازي لأي أسرة.

www.kishtainiat.blogspot.com