منتهى الوحشية..

TT

كلما أوصل الألم قلبك حافة القهر، وظننت أن كل نقطة من دمائك مشبعة بقهر لا يمكن أن يضاف عليه أي ظلم آخر، برهنت لك الأحداث أن الهمجية يمكن أن تكون أشرس، وأن ما يرتكبه المستوطنون يمكن أن يكون أكثر وحشية، بل تظهر حياله وحوش الغابة الكاسرة حملانا وديعة. لقد عايشنا المآسي الإنسانية الفظيعة للحرب على العراق، وسمعنا عن ما تسرب من مهانة وتعذيب لا يطاقان في غوانتانامو وأبو غريب، كما سهرنا الليالي في حرب تموز 2006 لنكتشف أن الدمى قنابل عنقودية أرسلها بوش هدية وحشية وزعها أولمرت على جنوب لبنان، ثم عايشنا محرقة أطفال ونساء غزة عندما استخدم الإسرائيليون القنابل الفوسفورية ضد المدنيين العزل، وعندما وضع جنودهم أطفال غزة فوق دباباتهم ليكونوا دروعا بشرية، وعندما كان الجنود الإسرائيليون يتصيدون الطفل الذي يخرج من منزله لجلب الماء، ورأينا أن الطفل يستصرخ أباه وأمه كي يخرجا كي لا يقتله جنود الاحتلال فقط ليرى والده ووالدته يقتلان أمام عينيه، وحين يصرخ ثانية، لسبب مختلف هذه المرة، يُقتل هو الآخر. لقد عايشنا كل هذا واعتقدنا في لحظة قهر أن الألم قد وصل أعلى منسوب له في دمائنا وأن أرواحنا وصلت حافة الشعور بالخزي والعار من العجز الدولي والإنساني أمام ممارسات وحشية تنتهك كل القوانين والأخلاق والأعراف الإنسانية المعروفة. خلنا أن العنف اليهودي قد وصل ذروته ضد العرب وأن توحشهم قد بلغ حده ومداه إلى أن رأيت وجه ذلك الطفل الفلسطيني وقد أجبره الصهاينة على أن يمسك بيديه فأسا وليهد مسكنه وغرفته وملجأه وبيته بيديه بينما يرابض جنديان إسرائيليان مدججان بالسلاح قربه يهددانه بالموت إن لم يحسن التنفيذ وعلى وجهيهما كل ملامح العنصرية التي لم تر في ذلك الطفل وأهله بشرا تخفق قلوبهم بالحلم والأمل وتكاد تتوقف لهول المصاب على المستويات الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية، وسمعت خبرا لم أسمعه في حياتي ولم يكن ليخطر لي ببال وهو أن «المحكمة الإسرائيلية» اتخذت قرارا تجبر العائلات الفلسطينية التي تقطن ما بين رأس شحادة وضاحية السلام في القدس على هدم منازلهم بأيديهم وتحمل كل عائلة كلفة الهدم بمبلغ خمسة عشر ألف دولار وعليهم إخلاء منازلهم وتنفيذ الهدم في مدة ستة أشهر تنفيذا لقرار المحكمة. أي محكمة هذه، حتى عصابات الأس أس الهتلرية لم تكن بهذه الوحشية. وتأتي هذه الحملة ضمن سياسة إسرائيل الممنهجة لاقتلاع العرب من أرضهم، خاصة هذه الأيام في القدس. ماذا يريد العالم من إسرائيل أن تفعل أكثر لتبرهن أنها أبشع نظام عنصري عرفه التاريخ الإنساني، بل وماذا تريد الأنظمة العربية من إسرائيل أن تفعل أكثر مع الشعب الفلسطيني الأعزل قبل تقديم المزيد من التنازلات على مائدة المبادرة العربية.

إن ما يعانيه عرب فلسطين من همجية الإبادة منذ ستين عاما من وحشية تصغر أمامه ما عاناه السكان الأصليون في أميركا الشمالية والجنوبية واستراليا وكندا.

كنت أراقب وجه ذلك الطفل الفلسطيني الذي أرغمته ما يسميه الغربيون «واحة الديمقراطية» على هدم منزله بيديه، وكان يتابعني بعينيه، يرمق الناس تارة، والجنود تارة والحجارة المقدسة لمنزله الذي بناه والداه بعرق جبينهم. تذكرت وجه الطفل محمد الدرة وهو يختبئ ووالده وراء صخرة ويلف جسده الغض خلف والده ورصاص الجنود الإسرائيليين يستهدفه من كل صوب، لقد جعلوا قلبه الفتي هدفا لرصاصهم المتوحش كي لا ينبض بحب فلسطين ولا ينجب أطفالا يهتفون لفلسطين أو يعلمون أبناءهم جذور مأساتهم والصمود إلى أن يعودوا جميعا إلى أرضهم المقدسة. عيون ذلك الطفل أعادت إلى ضميري منظر أعين والدي ووالدتي كلما طلبنا إليهما السفر معنا إلى بيتنا في المدينة بعد أن عجزا عن إعالة أنفسهما فتقول أمي: وهذه الدار لمن نتركها، لقد جمعت حجارتها على مدى أيام وأشهر وسنين وكان كل «دور» في بنائها يستغرق ألف لبنة والتي جبلت ترابها ومياهها وتبنها بيدي هاتين، وأحيانا ولكثرة استذكارها التعب تنفجر باكية حزنا على احتمال اضطرارها لترك تلك الدار التي شعرت دائما أنها تمثل قطعة من قلبها وروحها لا بل وتعلقها بالحياة. وحين سألت والدي كم يساوي هذا البيت، في محاولة مني لإقناعه ببيعه والانتقال معي إلى المدينة، سألني: بيتنا هذا الذي نسكنه؟ قلت له: نعم. أجابني: لا يُقدر بثمن. هكذا يتعلق الإنسان بمنزله الذي تمثل كل حجرة من أحجاره ذكرى عزيزة وكل زاوية من زواياه قصة أسرية تشكل ذلك الرباط المقدس من المحبة والحنان.

وكما صرح مرة أحد المسؤولين الأميركيين من المحافظين الجدد أن هدفهم من الحرب على العراق هو كسر الكبرياء العراقية فإن الهدف من هذه الممارسات الوحشية في النمط الجديد من الوحشية الإسرائيلية التي لا تكف عن ابتكار المزيد من أساليب الحقد والعنصرية، هو كسر ذلك الرباط المقدس بين الفلسطيني ومنزله فلا يحمل مفتاحه ليورثه لأولاده ولا يترك مكانا يحن إليه. يرفعون حافة وحشيتهم ضد الفلسطينيين كي يصيبوهم بالإحباط ويدفعوهم إلى الهجرة والقبول بخيار التوطين.

أمام كل هذه الوحشية يكتفي الأوروبيون والأميركيون بـ«انتقاد إسرائيل» مستخدمين أرق العبارات لدعوة إسرائيل لإيقاف سياسة هدم المنازل و«يدعون» إسرائيل للتوقف عن الاستيطان بينما يصدر حكام إسرائيل الحاليون المعروفون بأنهم الأشد تطرفا وتشددا 88 أمرا وحشيا مماثلا بهدم منازل العرب في القدس وذلك عقب زيارة مبعوث السلام الأميركي جورج ميتشل الذي حرص على نفي أي تصريح له ضد الحكومة الإسرائيلية قبل وصوله إلى القدس، وعوض للفلسطينيين بالقول «إن واشنطن لن تدير ظهرها لمساعي الفلسطينيين للاستقلال»، فلماذا إذاً تدير ظهرها لأكبر معاناة إنسانية وأفظع خرق للقانون الدولي الإنساني في القرن الواحد والعشرين؟ من سيجرؤ من قادة العالم على تسمية الأشياء بأسمائها اليوم، لا أن ينتظروا عقودا من المأساة والإجرام ثم يذهبون لمشاهدة أفلام عن هذه المعاناة التي تحدث اليوم والتي يجب أن يندى لها جبين البشرية!

لقد ركزت كل الصحف البريطانية على زيارة الرئيس أوباما إلى بويشنوالد ليكرس تقاليد تخليد ذكرى المحرقة النازية، حيث وضع وردة بيضاء وعانق ناجيا هناك، ووصفت زيارته هناك بأنها عاطفية وأنه كرم الضحايا. والسؤال هو أوليس من مسؤولية قادة العالم اليوم إيقاف أبشع محرقة تجري فعليا منذ ستين عاما أمام أعينهم ضد الفلسطينيين؟

إن عمق معاناة الفلسطينيين وتعدد وسائل وأساليب قمعهم وتعذيبهم واضطهادهم ترقى إلى أعمق معاناة في تاريخ البشرية خاصة أنها تحدث ووسائل الاتصال اليوم لا تعفي أحدا من الاطلاع على واقع ما يجري، إلا إذا كان ما يجري للفلسطينيين لا يلامس مشاعر البشر، ولا يُعتبر من مآسي البشر بسبب المشاعر العنصرية الدفينة في الثقافة الغربية التي بررت في الماضي قتل الأفارقة والمسلمين وتبرر اليوم قتل وتعذيب الأبرياء في فلسطين بعد ترويج القصص عن تخلف أو تعصب أو اختلاف بين هؤلاء البشر وبين القتلة الإسرائيليين الذين يدعون التحضر والديمقراطية ويصدرون أحكاما لم تصل وحشية طغاة مثل هتلر أو بول بوث حتى على تخيلها: أن يهدم أفراد العائلة منزلهم بأيديهم!

إن الوحشية الإسرائيلية مستمرة لقيام الدولة اليهودية على أنقاض حضارة احتضنت مهد المسيح، وصخرة المعراج، ودين التسامح والمحبة والعيش المشترك. الأسئلة اليوم تسأل ما إذا كان العراق وما زال مهما ولماذا؟ سيكون العراق دائما هاما وحبيبا للعراقيين كما ستكون فلسطين وكل منزل فيها وكل ذرة تراب غالية جدا وحبيبة للفلسطينيين، حتى وهم يقاومون قمع الناجين من المحرقة النازية، وسوف يطلع فجر في فلسطين تصبح هذه الوحشية العنصرية قصصا تروى للسائحين كما تروي جزيرة روبن إيلاند قصة صمود نيلسون مانديلا ورفاقه، وسأرسم وجه ذلك الطفل مع فأسه جميلا ومبتسما ومشرقا وسعيدا في كل حي من أحياء القدس وفلسطين، ولي يقين بانتصار العدالة بأنه لن يبقى حينئذ من هذه الوحشية البشعة سوى ذكرها السيئ والعار الذي تجلبه لمن خطط لها وعمل على تنفيذها كما جلبت النازية عار المحرقة على ضمير الغربيين الذين سكتوا عن جرائمهم ضد الشعوب.

www.bouthainashaaban.com