جوهر المقاومة الإسلامية: رؤية مختلفة لإيران وحزب الله وحماس

TT

يرتكب معظم المحللين الغربيين للإسلام السياسي الخطأ ذاته. إنهم يفترضون تلقائيا أن الصراع مع الغرب يتعلق في الأساس بسياسات غربية أجنبية، خاصة السياسات الأميركية فيما يتعلق بإسرائيل والعالم العربي وإيران، وإذا تغيرت تلك، فسيتغير كل شيء.

وفي الحقيقة، تشير اتصالاتي المكثفة على مدار الأعوام مع رجال الدين الإيرانيين وحزب الله وحماس إلى أن الصراع مع الغرب أعمق بكثير. فهي متأصلة في آراء عالمية متطرفة عن طبيعة الإنسان والمجتمع الصالح.

وفي عجز عن إدراك هذه الحقيقة، يخطئ الغرب باستمرار في قراءة ما يحدث في العالم المسلم. في أعماقه، يميل الغرب إلى الفردية والعقلانية الذرائعية والمادية؛ وتميل حركات المقاومة الإسلامية إلى منهج اشتراكي روحاني في الحياة.

لقد مرت ثلاثون عاما منذ قيام الثورة الإيرانية، وأكثر من خمسين عاما منذ ظهور أول حركة مقاومة إسلامية، الإخوان المسلمون، في مصر. ولكن يظل الكثيرون في الغرب مترددين: لماذا توجد مقاومة إسلامية من الأصل؟ ويسأل الغربيون: «ضد ماذا يثور المسلمون؟»

ولا يبدو أن هناك وضوحا حتى الآن بشأن الثورة الإيرانية: فهل هي أكثر من مجرد ثورة شعبية ضد السلطة، وأن قبضة الشاه الثقيلة حل محلها آيات الله، كما يؤكد البعض؟

تبدو مثل تلك التفسيرات غير كافية لتبرير الأحداث التي كانت وما زالت تحشد وتعبئ مئات الملايين من المسلمين. وفي كتابي «المقاومة: جوهر الثورة الإسلامية»، أقول إن الثورة في جوهرها «رفض»، رفض كبير لفهم النفس أو العالم الذي يسوده وعي غربي علماني معاصر.

وفي إيجاز، الحركات الإسلامية ليست غير عقلانية، إنها ليست نزوات ذات ميول دينية؛ ولكنها مفتوحة على التفسيرات العقلانية. ولكنها تسعى إلى تطوير بديل لأساليب الغرب.

وتقف الحداثة الغربية بالضرورة على عمادين:

يصف المؤرخون العمود الأول بـ«التحول الكبير». وقد بدأ في أوروبا في القرن الـ18، ويعتمد على الفلسفة الأخلاقية التي ترى أن الرخاء الإنساني متصل بالعمل الفعال في الأسواق. ويتداخل البشر، الذين يسعون لتحقيق رغباتهم واحتياجاتهم الشخصية، مع آخرين، عبر آلية السوق، من أجل تضخيم الرخاء الفردي والمجتمعي أيضا.

ويرتبط ارتباطا وثيقا بذلك فكرة أخرى، وقد تناولها المتشددون البروتستانت من الإنجليز، والتي تتأصل في التاريخ الأنغلوساكسوني: حيث تدخلت «اليد الخفية» للقدر في السياسة أيضا من أجل تحقيق نتيجة «مثالية» أخرى.

ويشير ذلك الرأي إلى أن الصدام في المنافسة السياسية بين قبائل الأنغلوساكسون في المجتمع الأول أفرزت انسجاما تلقائيا ونظاما سياسيا. ومن تلك «السوق» السياسية، اعتقد المتشددون الإنجليز أن مؤسسات الأنغلوساكسون تمثل صورة مصغرة للحرية الشخصية، ونشأت العدالة تلقائيا بعد ذلك.

وقد نقلت مثل تلك الأفكار الرئيسة عن السياسة والاقتصاد إلى الأميركيتين مع الآباء المهاجرين لتكون النموذج الأصلي للنظام الأميركي في الحكم. وقد نشأت مفاهيم الدولة القومية والديمقراطية وحقوق الإنسان من هذا التيار البروتستانتي.

وبالطبع، لم يحدث «التحول الكبير» بصورة طبيعية أو تلقائية. بل تطلب إقامة نظام للسوق تدخل كبير من الدولة من أجل إخضاع أهداف أخرى اجتماعية ومجتمعية وسياسية مهمة لتحقيق ذلك الهدف الطاغي. وقد تسبب ذلك في الضغوط التي جلبت أوروبا في القرن التاسع عشر إلى حافة الثورة، وبحلول العشرينات من القرن العشرين، أصبح الإسلام في أزمة متماسكا بأطراف أصابعه.

وفي القرن الذي نشأت فيه أزمة الإسلام في العشرينات، تم تصدير «التحول الكبير» إلى العالم الإسلامي. وكان هناك اندفاع من الغرب لتكوين دول قومية متكاملة عرقيا في المناطق الغربية السابقة في الدولة العثمانية. وكانت الدولة القومية القوية هي الكيان الوحيد الذي يملك القوة في الأدوات التي تمكنه من إحداث التغيرات الاجتماعية المطلوبة من أجل فرض تحرير السوق على المجتمعات المسلمة.

وكما هو الحال في أوروبا في وقت سابق، كان تأثير «التحول» مضطربا بالفعل. ونقل حوالي 5 ملايين أوروبي مسلم من منازلهم ما بين عامي 1821 و1922، حيث أقام الغرب دولا قومية في المناطق العثمانية السابقة.

وجاء الإصرار الشباب الأتراك على محاكاة حداثة السوق الليبرالية العلمانية الأوروبية في تركيا بتكلفة مريعة: حيث قتل مليون أرمني، و250.000 آشوري ونفي مليون من الأرثوذكس اليونانيين من الأناضول. وتعرضت الهوية الكردية للاضطهاد وأخيرا تعرض الإسلام للقمع على يد كمال أتاتورك. وأغلقت المؤسسات الإسلامية، وتم إلغاء الخلافة التي كان عمرها 1.400 عام.

ومن المفارقة، أن أتباع أتاتورك والتحول التركي، الذي أعجب به الغربيون كثيرا، عن غير قصد، وبتمزيق الصلة بالبنية الفوقية للخلافة التي كانت تقدم الاستقرار للعالم الإسلامي على مدار قرون، تسببوا في الظروف التي تحول فيها الإسلام على المستوى الشعبي ليكون حركة ثورية، من الأسفل إلى الأعلى، وتضم هوامش من الأقلية الشيعية.

ويوجد خط واضح يصل بين علمانية تركيا وحتى الثورة الإيرانية بعد أكثر من نصف قرن.

العمود الثاني: لقد كان المجتمع الإسلامي المرتبك والمشوش في مطلع القرن العشرين تحت حصار من العلمانية الإجبارية في تركيا وإيران وفي كل مكان. ومع تصفية الماركسية لأعضائها الشباب، بدأت رحلة من الاكتشاف. وسعى الإسلام إلى البحث عن حل لمشاكله باكتشاف «ذاته» من جديد.

ولجأ المسلمون إلى القرآن من أجل الحصول على أفكار. والقرآن ليس مخططا للسياسة أو للدولة: ولكنه كما يذكر على الدوام، ليس جديدا. فالقرآن «تذكرة» بالحقائق القديمة، المعروفة بالفعل لنا جميعا. وأحد تلك الحقائق أنه لكي ينجح البشر في الحياة معا، يجب أن يتميز المجتمع بالرحمة والعدالة والمساواة.

وتكمن تلك الفكرة في قلب الإسلام السياسي. إنها مبدأ يمثل النقيض التام «للتحول الكبير». وبدلا من ظهور السوق الذي تخضع له الأهداف الاجتماعية والاشتراكية الأخرى، يصبح المجتمع القائم على التعاطف والمساواة والعدالة هدفا غالبا، تخضع له الأهداف الأخرى، ومن بينها الأسواق.

وهي فكرة ثورية بصورة أخرى: بدلا من أن يكون الفرد هو الأساس التنظيمي الذي تتشكل عليه السياسة والاقتصاد والمجتمع، انعكس النموذج الغربي أيضا. ويصبح الرخاء العام للمجتمع فيما يتعلق بتلك المبادئ، بدلا من الفرد، هو مؤشر الإنجاز السياسي.

وفي إيجاز، يعيد المسلمون فتح باب النقاش القديم، وهو المتأصل في كل من الفلسفة الغربية والإسلامية. وكما طرحه أفلاطون، يشكك هذا الخلاف في أغراض السياسة. وينزعج بعض الغربيون لأنه بعد 200 عام من الرأي المستقر، يتم التشكيك في النموذج الغربي من جديد. وقد قال لي أحد المحافظين الأميركيين معلقا إنه مع ديكارت، اكتشف الغرب «الحقيقة الموضوعية» من خلال العلم والتكنولوجيا. وذلك جعلنا «نحن» أغنياء وأقوياء، ولا يمكن أن يتحمل المسلمون ذلك. وهم يعرفون أنهم في النهاية سيجبرون على الإذعان «للحقيقة» الغربية.

ولكن تتعلق الثورة الإسلامية بما هو أكثر من السياسة. إنها محاولة لتشكيل وعي جديد، للهرب من الافتراضات الاستباقية بعيدة المنال في زماننا. إنها تبني على التراث الفكري للإسلام من أجل تقديم فهم راديكالي مختلف للبشر، وللهرب من هيمنة وجمود العقلية الديكارتية.

إنها رحلة لاكتشاف «الذات» الجديدة البعيدة تماما عن الكمال. وبها أوجه قصور عديدة، ولكنها تقدم أفكارها الثقافية للمسلمين (والغربيين) الإمكانية لتخطي قصور المادية الغربية. وذلك مثير للحماس والنشاط. وكما أجاب عليّ أحد قادة حزب الله عندما سألته عما تمثله له الثورة الإيرانية، قال بلا تردد إن المسلمين أحرار في التفكير بصورة إسلامية مرة أخرى.

لذلك ليس من الممكن فهم المقاومة الإيرانية أو أية مقاومة إسلامية كبيرة بدون استيعابها كحدث فلسفي وميتافيزيقي أيضا. إن إغفال ذلك الاستيعاب يساعدنا على توضيح سبب سوء فهم الغرب لإيران وثورتها والأحداث التي تجري في المنطقة.

وبالتأكيد، يوجد جانب آخر من الإسلام: فهو مثل المسيحية، يشهد منذ مهده، صراعا بين التفسيرات المتعصبة الحرفية ضيقة الأفق في مواجهة التقليد الفكري الراسخ في الفلسفة والعقل وتحويل المعرفة. وعلى الرغم من أن ذلك لا يدركه معظم المحللين الغربيين، فإن الحركات مثل حزب الله وحماس التي يرونها فقط عبر منظور معارضتها للاحتلال الإسرائيلي، تمثل جزءا من الوجه الآخر، التقليد الفكري.

وعلى النقيض، على مدار الأعوام الخمسين الأخيرة، كان الغرب يتطلع إلى المتمسكين بالمعنى الحرفي للدين، وغالبا ما يسمون بالسلفيين، لاحتواء «التهديدات التي تتعرض لها مصالحه» في الشرق الأوسط، في محاكاة لفكر الاحتواء في الحرب الباردة.

ومن المثير للسخرية أن الغرب صاحب التنوير يقف في الجانب الخطأ: حيث يدعم التشدد ضد الفكر الحر للتطور الديني. وربما لا يكون من المفاجئ أن الغرب المتشدد ساهم في ظهور التشدد في الإسلام أيضا. ولكن تمسك الغرب بهذه الفكرة الخاطئة بأنه يدعم «الاعتدال» في مواجهة «التطرف»، قد ترك الشرق الأوسط مكانا أقل استقرارا وأكثر خطورة وعنفا.

*عميل الاستخبارات البريطانية السابق.. عمل مستشارا لخافيير سولانا الممثل السامي للاتحاد الأوروبي في قضايا الشرق الأوسط من عام 1997 إلى عام 2003، بالإضافة إلى لجنة ميتشل التي حققت في أسباب الانتفاضة الفلسطينية.. وكان مشتركا في التفاوض مع حماس وحركات إسلامية أخرى، ومن بين ما تناوله إنهاء الحصار على كنيسة المهد في بيت لحم عام 2002.. حاليا يرأس منتدى الصراعات في بيروت.. أحدث كتاب صدر له بعنوان: «المقاومة: جوهر الثورة الإسلامية»

*خدمة «غلوبال فيوبوينت»

خاص بـ«الشرق الأوسط»